الخميس، 13 أكتوبر 2016

نصف بشري/ نصف آلي:


تشكك الطاقم الطبى في إمكانية إنقاذ المصاب، خصوصًا مع النظرة الأولى للساقين والذراع الأيمن المبتورين، علاوة على الفراغ الموجود محل عينه اليسرى.

إلا إذا...!

الأمل الوحيد المتبقي، يتمثل في زراعة أطراف آلية، قبل أن يتم دمجها بالأعصاب، فيستطيع المصاب التحكم فيها وكأنها أعضائه الحقيقة.

الأحداث السابقة تنتمي لدراما مسلسل (رجل الستة ملايين دولارThe Six Million Dollar Man)، ويعتبر بطلها (ستيف أوستن) أقدم وأشهر (النصف البشر/ نصف الآلة) على الشاشة، ولو مددنا الخط على استقامته سنجد تجليات أحدث، على غرار "دراث فيدر" في (حرب النجوم)، و"بورج" (ستار تريك)، بالإضافة –طبعًا- للرجل الحديدي "توني ستارك".

(السيبورج) ببساطة اختصار لكلمة (Cybernetic Organism)، بما معناه "تدعيم الجسد الحي بمكونات آلية اصطناعية"، ظهرت اللفظة لأول مرة عام 1960م، على لسان الثنائي (مانفريد  كلينس) و(ناثان س. كلاين)، وإن تواجدت ضمنيًا من قبلها بكثير داخل أدبيات الخيال العلمي، ربما منذ أيام (إدجار آلا بو) عام 1839م، وقصته القصيرة (الرجل الذي تم استهلاكه)، فضلًا عن (إدوارد بيج  ميتشيل) وقصة (أقوى رجل في العالم).

كلاهما اقتربا من مفهوم "السيبورج" إلى حد ما، غير أن عام 1911م شهد قفزة كبيرة في التصور الأدبي للفكرة، حيث أضاف الفرنسي (جين دا لا هير) سلسلته (الأعشى).

"العشى"؛ يعني ضعف البصر ليلًا، وهو اللقب الذي ارتبط ببطل السلسلة (ليو سانت كلير)، صاحب القلب الاصطناعي، والجسد البشري/ الميكانيكي، مما يجعله -بالمعنى العصري- أول "سيبورج" حقيقي يجد طريقه إلى صفحات الأدب.

ربما مررتم بشكل عابر على لفظة (القلب الاصطناعي)، لكن لنركز أن القصة صدرت عام 1991م، أي قبل عقود طويلة من أول إجراء أول عملية زرع قلب سنة 1967م.

عام 1928م، تألق (إدموند هاملتون) في روايته الكلاسيكية (مذنب الموت The Comet Doom)، حيث اقترح شكلًا مختلفًا للسيبورج، بزرع عقل بشري داخل روبوت هذه المرة.

وعلى أرض الواقع، سابق العلماء الزمن خلال السبعينيات، فجربوا زرع أقطاب لتنشيط أجزاء معينة من المخ (كمراكز الابصار والحركة)، وحققت هذه التقنية نجاحات محدودة مع حالات كضعف البصر، أو الشلل.

هناك اسم آخر لا يمكن اغفاله في هذا الصدد، هو الباحث (كيفن وارويك) المعروف بـ "كابتن سيبورج"، وهناك أسباب وجيهة –بالطبع- لخلعهم عليه هذا اللقب، ليس أقلها تجاربه الباكرة منذ عام 1998م، عندما زرع شريحة إلكترونية تحت الجلد، لتربطه بحاسب المعمل، فأمكنه التحكم بعد في إضاءة المكان، فتح الأبواب، إلخ.

يعدنا هذا الإنجاز بتحكم فائق فى الآلات، إذ لن تحتاج لإصدار أوامر صوتية أو النقر على أزرار، لنتصور فائدة تقنية كتلك للمعاقين مثلًا؟

بل ويمكن البناء على الفكرة، بجعل عقولنا تتصل بالانترنت مباشرة، أو اتخاذ الحاسب وسيطًا للتراسل ذهنيًا فيما بيننا، أي سنحقق أخيرًا حلم "التخاطر" الذي طالما وعد به الخيال العلمي.

أما عن أول "سيبورج حقيقي"، فيشتهر بهذا اللقب –عالميًا- (إيل هاربسون).
ولد (إيل) بمشاكل مزمنة في الإبصار، مما اضطره عام 2004م إلى إجراء جراحة فريدة من نوعها، حيث زرع له الأطباء جهاز إرسال، ليصير –أيضًا- أول من يمتلك هوائي (إريال) متصل بجمجته، نقصد المعني الحرفي بالطبع، وليس (ذو إريال) بالمعنى الدارج، هذا الهوائي يترجم له كافة المعلومات إلى ذبذبات صوتية، فبوسع (إيل) الآن، استيعاب الصور والألوان المحيطة، استقبال المكالمات الهاتفية داخل عقله مباشرة، بالإضافة إلى خدمة (واي فاي) تصله بالانترنت والأقمار الصناعة.

من المواقف الطريفة التي لحقت بـ (إيل)، أنهم رفضوا تجديد جواز سفره عام 2004م، بسبب المظهر الخارجي كالعادة، واستندوا إلى تشديد اللوائح على تقديم صور شخصية بدون أجهزة إلكترونية، فاحتج (إيل) محاولًا اقناعهم أن ذاك الهوائي جزء من جسده.

فهل اقتصرت تقنية السيبورج على البشر فحسب؟

في عام 2006، لم تسلم الحشرات من زحف الآلة، حيث تمكنت جامعة (كورنيل) من زرع هياكل اصطناعية في بعضها.

ولأول مرة عالميًا عام 2011م، أعلنت شركة "RoboRoach" رسميًا عن طرح صراصير سيبورجية للبيع، من التي يمكن للمستهلك توجيهها عن بعد.

لم يرق الأمر لمناصري الطبيعة والرفق بالحيوان.. إلخ، فأبدوا اعتراضهم حول مدى أخلاقية هذه التقنيات، لكن يظل هناك –دومًا- من لا يكترث بكل ذلك، كالعسكريين مثلًا.

منذ زمن طويل، أثارت تلك الأفكار شهية الـ (DARPA) بالولايات المتحدة، اختصار لـ (وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة) التابعة للجيش.

فأجروا تجارب مشابهة على بعض أنواع الخنافس، متوقعين منها ذات يوم أن تغدو جاسوسًا واعدًا، فمن قد يلاحظ أو يشك في حشرة بريئة.. نصف رقمية؟

بمرور الوقت، مد الـ (DARPA) مظلة تجاربهم إلى كائنات أعقد، إذ تمتلك أسماك القرش مثلًا قدرات فائقة على الرؤية بالموجات فوق الصوتية، وعند زرع أقطاب للتحكم فيها عن بعد، سيصير لدينا مجند بحري ذو سونار فائق، يمكنه الكشف عن سفن العدو، أو تنفيذ عمليات تفجيرية انتحارية عند الطلب.

أخيرًا، لا أجد ما أختم به أكثر من رؤية  (دونا هاراواي) في (إعلان مبادئ الكائن السيبرنطيقي)، إذ تنذر من إقبالنا على عصر الكائنات السيبورجية، والذي سنعجر فيه عن التمييز بوضوح عن الفرق بين المصطنع والطبيعي، ويتراوح هذا الكائن بين الإنسان الذي استبدل بأي عضو من جسمه عضو صناعي آخر، وبين الإنسان الآلي المكسو بطبقة رقيقة من الجلد.

أو على حد تعبيرها: "فآلاتنا... أصبحت تتميز بالحيوية الفائقة بدرجة مقلقة، أما نحن فأصابنا الكسل والخمول بطريقة مخيفة".

                                      **********

اقترح البعض طرق متنوعة لاتحاد البشر مع الآلة، على غرار رواية (المدينة والنجوم)؛ وفيها تحمس المؤلف (آرثر كلارك) لفكرة نسخ وعي البشر، قبل تحميله على أجهزة رقمية، مما ينتج عنه استمرار وجودهم، حتى ما بعد موت الأجساد.
توجد تقنية واعدة أخرى تسمى «الجلد النشط»، تخدم الأحياء هذه المرة، إذ تتيح طبع الإلكترونيات على بشرتنا مباشرة، وغرسها حتى تبلغ النهايات العصبية تحته.
لنلاحظ أن استجابتتنا ما هي إلا إشارات كهربية ترسلها الأعصاب إلى المخ، فحاولوا تصور ما قد نحصل عليه حينئذٍ، ستصبح الألعاب التفاعلية محسوسة، ويمكنك شم ما يطبخه الطاهي في التلفاز، بل والتواصل الحميم مع أهلك، عن بعد.
أعني المصافحة المحسوسة لأقربائك، أو عناق أطفالك، لست مسئولًا عما خطر لك –لأول وهلة- من كلمة "أهل" أو "حميم".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"