السبت، 24 سبتمبر 2016

(الأمسية المظلمة) الحلقة 2:


الحكاية الأولي: (الطيف الرقمي)
برويها: ياسين أحمد سعيد

انتقلت الأنظار إلى الشاشة الكبيرة في الجدار، وقد بدا هذا الجزء مسليًا للجمهور نوعًا؛ فهذه أول مرة يرون تواجد شخص عن بعد.. بحفل توقيع، ويطل عليهم بواسطة حاسب نقّال.. مكبر صوت.. سماعتيّ أذن! 
شبّك الغريب أصابعه أمامه، واستهلّ بإلقاء التحية، ثم قال: 
- أتفق مع مصطفى في تشرفي بهذه الفرصة،  وإن تمنيت اكتمال سعادتي بالتواجد بينكم مباشرة، لكن -بكل أسف- لديّ ظروف قهرية تجعل ذلك في عداد "المُحال"، سواء الآن، أو في أي وقت آخر. من ثَمّ، أوجّه امتناني اللامحدود لزملائي على فكرة (الحضور لاسلكيًا) تلك، وما أتعبتم فيه أنفسكم من إعدادات تقنية مرهقة.. شاشة.. صوتيات.. تنسيق مع المكتبة.. إلخ. 
في النهاية، أتمنى أن أحقق المعجزة، فأكون والخيال العلمي ضيفين خفيفين على (جلوبكم)... 
بتر حديثه فور أن شاهد بعض الحاضرين يدارون ابتساماتهم الجانبية. 
صمت لحظة، ثم أعلن موافقتهم الرأي، من الغريب والطريف –بالفعل- أن يستمعوا لحديث عن الخيال العلمي باللهجة الصعيدية، لذلك؛ يمكنه أن ينسحب ليوفر عليهم وعلى نفسه التندّر المتبادل، و... 
قاطعته صيحات المقربين، تطالبه بالكف عن تحفزه المعتاد.  
خفف ياسين من تخشبه، ثم سحب–ببطء- يده التي امتدت إلى الزر بالفعل، كأنما يتهرّب –بالغريزة- من إثبات الصفة على نفسه. 
-شكرًا، وأؤكد أنني أعذركم عمومًا، فحتى أقرب أقربائي في الجنوب السعيد، يسألونني: لماذا تركت مشاكلنا الاجتماعية، والجغرافية، و(المماليك)، و(الإنجليز)، كي تتجه إلى الخيال العلمي؟ أفرار من الواقع؟  
على العكس، بالنسبة إلىّ، أدب الخيال ليس هروبًا، إنما هو طريقة خاصة جدًا للمواجهة؛ لعل قضية (الطيف الرقمي) أبرز تجلي لهذا المبدأ في حياتي، حيث عجز وعيي عن إيصالي لحلول فيها؛ فنقلت المهمة –كالعادة- للاوعيي عبر كتابة القصة، وتركتها تحركني نحو مصب الحقيقة، هناك، وجدت في انتظاري الاختيار الصحيح الذي وجب علىّ اتخاذه مبكرًا، وكان عبارة عن...
*******
"لا، ليس البروفايل، سأستطيع..أن..!"
انبعثت الكلمات المتحشرجة من غرفة هشام، مما اجتذب أخيه خالد، المار- مصادفة- في الطرقة.
أطلَّ خالد على وطن الفوضى المتمثل في غرفة أخيه، وفهم..
شقيقه نائم أمام حاسبه.. يهلوس.
مروحة وحدة المعالجة تصدر طنينها الرتيب، أما الشاشة فاكتست بسواد تام إلا من شعار "النوافذ" الذي تراقص على سطحها، في مواجهتها مباشرة؛ تدلى رأس هشام -كالمشنوق- فوق صدره اللاهث، وجود شاشة الإيقاف يشي أن صاحبنا نائم منذ مدة.
تقدم خالد، وهز شقيقه بغلظة.
استغرق الأمر وقتًا حتى رفع هشام ستار جفنيه أخيرًا، رمش عدة مرات ليكيّف عينيه مع الإضاءة.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أين؟ من؟ ماذا هنالك؟
شرح الأخ أن كل ما "هنالك":
-وجدتك نائمًا أمام الحاسب، أهناك راشدٌ يفعل ذلك؟
مسح هشام خيط اللعاب المنحدر من زاوية فمه، وسعى لتحجيم ما ارتسم على وجهه من بقايا فزع.
راق المنظر المضحك لخالد، وجهر بتخمينه أنه كان كابوسًا إلكترونيًا فيما يبدو، إذ سمعه يهذي عن بروفايل وفيس، ثم انصرف، تاركًا هشام خلفه يلملم شتات يقظته.
كلام الشقيق لم يبتعد عن الحقيقة كثيرًا، يتذكر هشام –بالفعل- أن نومه تضمن أشياء من هذا القبيل.
اعتدل كي يحرّك الماوس بتثاقل، فتلاشت شاشة الإيقاف دفعة واحدة.
الفيس مفتوح فعلًا، بل إن هناك ثلاثة مربعات دردشة مفتوحة، كلها تتساءل أين اختفى؟ ولماذا بتر حديثه فجأة؟
تقافزت أصابع هشام على لوحة المفاتيح، وكتب –سريعًا- على حائط صفحته، يحكي عن التشوش.. والكوابيس.. ثم سحب الفوطة نحو كتفه، واتجه إلى الحمام، ولم يلبث أكثر من دقائق حتى –مجددًا- إلى سجنه الاختياري أمام الجهاز، فوجد إشعار بثلاثة أعجبوا بمنشوره.
كتب صيغة اعتذار سريعة، ونسخها إلى الثلاثة الذين بتر معهم الحوار، ثم.. هرب جسده في قشعريرة باردة، فهناك مربع دردشة جديد أضيء بالأحمر القاني، مشيرًا إلى احتضانه رسالة.
الدعابة أن اسم المرسل (H Ibrahim)، وهو الاسم الذي يستخدمه هشام لحسابه.
اعتصر الشاب ذهنه المشوش بالنعاس، لا، لا يوجد أحد في قائمة أصدقائه يحمل نفس الاسم؟
ومن المُحال طبعًا أن يرسل رسالة لنفسه؟ إذن.. هناك من صنع حسابًا بنفس اسمه وصورته.
تُرى من صاحب هذا البال الرائق؟ من يملك الفراغ الكاف لحَبْك مزحة كتلك؟
نقر على المربع الحواري الجديد، فغاب اللون الأحمر عن المستطيل، وظهرت الحروف الثلاثة المعتادة:
- هاي. :)
نظر هشام للمرّة العاشرة إلى رأس المربع، ثم كتب:
-هاي ورحمة الله وبركاته.
ظهر ما يفيد بأن محدثه يكتب ردًا، فلم ينتظره هشام، بل نقر على اسم المتحدث، بقصد الانتقال لصفحته، وانتظر حتى اكتمال تحميلها.
-هل نمت جيدًا؟
ظهرت هذه العبارة الجديدة، في حين ارتعشت يد هشام الممسكة بالفارة، فصفحة الطرف الآخر هي نفسها صفحته؛ نفس المنشورات، آخر النشاطات، الصور.
أي أن أحدهم سرق حسابه، ويحدّثه منه.
لكن كيف؟ كيف يستخدم اثنان نفس الحساب في نفس الوقت، ويدردشان سويًا منه؟
انتبه هشام لما هو أفدح، كيف عرف مخاطبه بوقوعه في النعاس أمام الكمبيوتر، واستيقاظه توًا؟
كتبت أنامل هشام المتعجلة:
- أعترف أنها خدعة متقنة، ها أنا ذا أرفع يداي عن لوحة المفاتيح، أصفّق لك، والآن أوجز، واخبرني من أنت؟
- ألم تدخل على بروفايلي حالًا، لتجد أنها – ببساطة- صفحتك؟ الإجابة واضحة أمامك، أنا أنت، أو - بالأحرى - ظلك الرقمي.
شُلت أصابع هشام فوق لوحة المفاتيح، كيف عرف بفتحه البروفايل؟!
تبلبلت قدرة هشام على الاستيعاب، ثم تمالك نفسه قدر الإمكان، وهو يعاود الرد:
- ظل من يا (روح خالتك)؟!
- لا عليك، أعذر جهلك.. ظلك الرقمي هو محصلة تواجدك على الفضاء الافتراضي.. بياناتك.. منشوراتك على مواقع التواصل.. تفاعلاتك.. معاملاتك البنكية.. بل وتمتد حتى إلى كل مرة ظهرت فيها على كاميرا مراقبة في مكان عام..
-لقد تورمت رأسي من سخافاتك، اوجز وقل من أنت بحق، أو سأجري لك حظرًا.
-ساعتها ستكون أول شخص يُجري حظرًا لنفسه!
بلغ هشام إشعارًا مختلفًا هذه المرة؛ كان طلبًا من محدثه بالدخول في مكالمة فيديو.
ارتاح هشام لهذا التطور، واضح أن محدثه ملّ اللعبة، وسيكشف عن وجهه.
ضغط هشام زر الموافقة، فظهر مربع يحمل صورة الطرف الآخر.
*******
هو؟ أنا؟ من؟ ماذا؟
كان الشخص المقابل يطابقه 100%، بالضبط وكأنه انعكاس فى مرآة.
نفس خلفية الغرفة –أيضًا- بملصقاتها وشقوق جدرانها، بل ونفس زاوية ووضعية الكاميرا أيضًا.
الزاوية المنخفضة (law angle) كما يسمونها في السينما، وتمنح أسفل وجه هشام تضخيمًا يحبه.
نظر (هشام) بهول إلى عفريته، هذا لو أن هناك عفاريت تستخدم دردشة الماسنجر.
- من أنت؟ اخبرني – بالله عليك- من أنت؟
- يا لك من ممل، لقد سألت نفس السؤال ألف مرة، الأجدر أن تنتقل لعلامة الاستفهام الأهم، وهو ماذا سيحدث لك؟
اندلع بركان حارق من تربة ذكريات هشام، الآن، استرجع الكابوس الذي استيقظ منه توًّا، وصاحبه تنميل غريب سرى في كل خلية من جسده.
في المقابل، اتكأ هشام الآخر بكوعه على مسند المقعد، وهو نفس ما يفعله هشام الأصلي عندما يستحوذ عليه (الجذل).
ثم سمعه يواصل:
- أما زلت ترفض تصديقي، سأذكرّك بما يجعلك تقتنع.
أخبره عن (نسمة جريئة) حسابه الاحتياطي الآخر على الفيس، والذي يخدع به صديقه كمال، ويخاطبه من خلاله على أنه فتاة، أخبره عن مشاركتك دعايا الحزب الإسلامي على صفحته أثناء الانتخابات، وبعدها بفترة كان يفتح الكاميرا مع الأخت اللعوب (I'M Easy)، وينخرطا في عرض لاأزياء.
-رفقًا بنفسك، وبهذه الصدمة على وجهك، أعلم أنك لم تنكز يومًا نفسك، وتطرح عليها هذه الأسئلة المجنونة:
كيف ومتى انقسمت إلى شخصين، واحد واقعي وآخر الرقمي؟
كيف التهمني الاهتمام بتواجدي الافتراضي، فطمس تدريجيًا شخصيتي الأصلية؟
ماذا لو تحرر (ظلي الافتراضي) ودخلنا أنا وهو في معركة؟ ترى من الأقوى؟
(أظلمت الخلفية من وراء هشام الرقمي، وتضاعف عصارة الجذل الذي يتقطر من صوته):
- اجر إحصائية بسيطة، وانظر كم ساعة تقضيها في صنعي، في البداية كانت من أربع إلى ست ساعات يوميًا، والآن لا تقل عن عشر ساعات، أيّ أنني –ظلك الافتراضي- أحظى بالنصيب الأوفر من الوجود!
وبالتالي صدق أو لا تصدق، أنا الأقوى، لا تلومنّ في ذلك إلا نفسك، أنت من جعلت ظلك أقوى ألف مرة منك.
تخدرت يد هشام المتصلبة على الفارة، ثم سقطت إلى جواره تدريجيًا.
- أفلت مني في المرة الأولى، وفى الثانية هلوست بصوت عالي حتى أيقظك أخاك.
لا أخالك تستطيع المقاومة لمرة ثالثة.
كانت رجفة جناح أخيرة من ذبابة، قبل أن تموت في النهاية.
تمنيت –صدقًا- لو تقاوم أكثر.
فأنا في النهاية ظلك، ولن أفخر بكوني ظلًا لشخص ضعيف.
أعلم أنك مصعوق، ولم يرد هذا إطلاقًا إلى مخيلتك، لم تره حتى في أفلام الخيال العلمي الأجنبية.
تمهّل الظلّ، وكأنما يتشبث بإطالة هذه اللحظات لأبعد مدى.
-عمّا قريب سيكتمل الاستحواذ، لتتحول إلى مجرد صنم متحرك.. ستتعطل قدرتك على إصدار أي فعل أو رد فعل، ومع أي موقف، ستنجرّ –كالدمية- إلى عالم الظلال، فتفتح هاتفك، أو حاسبك المتصل بالإنترنت، وتسلّم إلىّ راية اتّخاذ القرار عنك.
أشعر بك تصدر مقاومة هزيلة، تتألم من ضعفك أمامي، لا تقسو على نفسك.. لست وحدك.. كل أقراني يحرزون تقدمًا فائقًا، وعمّا قريب سيُعاد رسم الواقع بريشة فضائه الافتراضي.
زحف الظلام من غرفة هشام الرقمي إلى نظيره الواقعي، وغامت الدنيا - تدريجيًا- أمام الثاني.
سقط هشام من حافة الوعي، وهوى سريعًا إلى الأسفل، إلى بئر ظله الافتراضي.
*******

(يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"