الأحد، 13 مارس 2016

صعيدي فى الجامعة الأمريكية جـ 3

- لاسترجاع الجزء السابق من (هنا).
عقب انتهاء المقابلة الشخصية، وفور إغلاقي باب القاعة ورائي، لم أستطع مقاومة صيحة النشوة، مع تلويح مستمر في الهواء.
لم أفق إلى على نظرات زملائي في الخارج، مثبتة عليّ، فحاولت التبرير بحرج:
- لا عليكم، مجرد طاقة زائدة.حمدت الله أنهم تجاوزا هذه النقطة بسرعة، وتغير الموضوع إلى:
- لماذا تأخرت بالداخل؟
تعجبت لأننى لم أشعر بالوقت إطلاقًا، فأوضحوا لى أننى أستغرقت ساعة إلا الثلث، وهو ما يزيد عن الوقت المحدد للمشاركين، ثم سألوا كيف سار الأمر؟
حاولت أن أكون دقيقًا فى إجابتى، فأجبتهم بكلمة واحدة تختصر كل شئ:
- "استمتعت".
أول مرة أحضر مقابلة شخصية، فأنتشى لدرجة تجعلنى لا أكترث للنتيجة، يكفى ما نلته من وقت مرح.
يحمل المشروع اسم (تشبيك)، وهو -كما يوحى اسمه- معنى بتجميع باقة من شباب المجتمع المدنى المهتمين بالقضايا الاجتماعية، مع صقل مهاراتهم بسلسلة ورش دورية من مارس 2016م إلى 2017م، وينتهى الحفل بتقسيمهم لأربع مجموعات، تنفذ كل منها مشروع مجتمعى يطبقوا فيه ما تعلموه.
يأتى البرنامج بتعاون بين الجامعة الأمريكية ومؤسسة (جون جرهارت)، وقيل لنا أن هناك 2000 إستمارة تقديم وصلتهم، تم تصفيتهم إلى 120 فقط، عرفت قبل دخولى المقابلة، فكادت عيوننا تدمع، ثم نهضنا نصافح بعضنا البعض بتأثر مازح.
2000؟
يفترض -إذن- طالما بلغنا هذه المرحلة، فهذا يعنى أننا عباقرة وعالميين، بغض النظر كنا ضمن الـ 30 مشارك النهائيين، أم لا.
عندما سألوننى عن استفادتى التى أتوقعها إذا ما تم اختيارى، فأخبرتهم أننى نلتها بالفعل فى الخارج، قبل دخولى مباشرة.
كنت أعنى الشباب الذين تجالسنا أثناء انتظار دورنا فى المقابلة، استفدت منهم رقم اللقاء القصير، يكفى التعارف برفاق مجتهدين جدد من نفس سنك، بينما واحدة منهم فقط التقيتها من قبل.
(فرحة حماد) التى فرحت جدًا برؤيتها ثانية، أعرفها منذ ورشة تدريبية أقامتها (مكتبة الإسكندرية) بأسوان، وتصورت أنه من الصعب أن يدخر القدر لنا لقاء آخر.
تعمل فرحة فى صفوف جمعية (قوص بلدنا)، الذين أعتبرهم بمثابة جمهورية موازية، حيث يقوموا بمختلف الأنشطة سواء خيرية، ثقافية، اجتماعية، فنية، إلخ.
مثل لى الرفاق الآخرين إضافة جميلة كذلك، فاستفسرت عن أنشطتهم أكثر.
سرد لى كل منهم جبل من الخبرات ضمن أسماء جهات أسمع بها لأول مرة، يفترض أنها منظمات مجتمع مدنى شهيرة.
لا أخبئ عليكم، شعرت بالاغتراب، يفترض أن الجميع قادم من نفس الخلفية، يتحدث نفس اللغة، بينما لا أعرف ماذا قد يفعل كاتب فانتازيا هنا؟
محور حديثى فى المقابلة نفسها، تعلق بأن كل القضايا -من وجهة نظرى- تعد هامشية سواء؛ فساد، عنصرية، فراغ سياسى، تحرش، إلخ، فاستغرب أن الجميع يهتم بما سبق، ولا ينتبه أن صلب كل المشاكل ببناء الإنسان نفسه، عن طريق (تعليم، إعلام، ثقافة).
للمصادفة، فإن هذا الثلاثى هو أكثر ما نعانى فيه كل أنواع القصور، فالأول ينال أقل ميزانية و... كما نعلم، الثاني ولاءه إما للدولة أو لرجال الأعمال، الثالث - وهو ما يفترض أننى اهتمامى الأول- نعتبره ليس أكثر من ترفيه وits fun.
راجع المحاور شاشة حاسبه، ثم واجهنى بأكثر سؤال أعجبنى خلال اللقاء:
- تفترض أن (الثقافة) كفيلة بصنع التغيير، أليست هذه نظرة رومانسية، ومختلفة تمامًا عن الواقع المعاش، أغلبنا يقرأ رواية أو يشاهد فيلمًا، فيروقا له كثيرًا، لكنه بمجرد الخروج، يلقى قمامة فى الشارع،ويرتشى، ويتحرش، إلخ؟
لو أن هناك مشكلة فى المقابلة، فهى خشيتى ظنهم أننى أنتمى لـ (حازمون).
السبب؛ أننى رجعت بظهرى فى الكرسى غير مرة، لأعقب بمنتهى الجذل:
- "أنا سعيد لأنك سألتنى هذا السؤال".
كيف لا، وهذا السؤال يلمس ما أعيش من أجله، لذلك أعتبره من أكثر ما أستطيع الرد عليه فى حياتى، أحتجت فقط عدة ثوان، قبل أن ينطلق لسانى:
- فى رحى معركة تحرير الهند، من أين استوحى (غاندى) أفكاره عن (اللاعنف) و(الدفاع السلبى)؟ من كتاب (العصيان المدنى) "للأسف نسيت مؤلفه"، (جان جاك روسو) الذى تسببت كتاباته فى قيام الثورة الفرنسية، وعلى العكس، قد تتسبب الثقافة بتأثير عكسى مهلك، مثل كتاب (هذا ما قاله زرادشت) الذى تأثر به (هتلر).
باختصار؛ فى الثقافة لا تحتاج أن تغير الجميع، يكفى -أقله- أن تغير واحدًا، وهذا الواحد قد يغير العالم.
ابتسم المحاور، وهم أن ينتقل لنقطة أخرى، فأصبت بالإحباط، لا أرجوك، هذا الجزء راقنى كثيرًا، فاستكملت الحديث على نفس الخط:
- لدى صديق اسمه وائل يعمل مهندس كمبيوتر، ووصل بفضل أحد ابتكاراته إلى تصفيات برنامج (نجوم العلوم) على MPC4، كثيرًا ما تناظرت مع وائل فى طفولتنا حول؛ أيهما أهم؟ مجالى أم مجاله: الأدب أم العلم؟
استند وائل إلى أن كل اختراع سينجزه يستطيع أن يعرف كم مبيعاته بالضبط، بالإضافة لرقم محدد للمستفيدين به، ثم يطالبنى بأن أقدم له قائمة محددة بـ (ما الذى تفعله قصصى بالضبط)، أعترف أن هذا بالضبط ما يفتقد إليه الأدب، حيث أن كل تأثيراته غير مباشرة وطويلة الأمد، فلا تستطيع أن تحصى ماذا فعلت رواية كذا فى حياة القراء الفلانيين؟
ردى على وائل اختصر فى تذكرى له بسلسلة ملف المستقبل، وأنها سبب أساسى فى إيقاد ميوله للعلم، أى أن كل مخترعاته بمبيعاتها بمستفيديها، مدين فيها لسلسلة روايات.
رأيت فى عينى الرجل أن (أقسم بالله أننى اقتنعت، يكفى، لنر بقية الأسئلة)، فقلت فى سرى: (هيهات).
شبكت كفى أمامى، و...:
- تمتلك القوة الناعمة أذرع أ...
لم يحتمل المحاور أكثر من ذلك، وأصر على مقاطعتى بسؤال آخر، فأجبته بضيق واقتضاب:
- أنا.
كلمنى عن صاحب الدور الأساسى -فى رأيى- عن المشاكل المجتمعية الحالية؟
- ههه راقتنى الإجابة على فكرة.
شرحت له أننى لا أبالغ، مشكلتنا الكبرى تكمن فى نفضنا للوم عن أكتافنا، إلى أكتاف الآخرين، قابلت مسئولين حكوميين يتهموننا بالانزواء، ورفضنا أيدهم الممدونة، أما نحن كشباب فنرد بلعن إرثهم من الروتين والترهل الإدارى، من ساعتها قررت اعتبار نفسى المسئول الأول، أيًا كان موقعى، لو كنت موظفًا فى الوزارة، لأجبتك بأننا كحكومة السبب، لو عملت بمنظمة مجتمع مدنى، نفس الشئ، لكن بما أننى فرد، أجيبك بأن الأشخاص العاديين أمثالى هم السبب، أسير على نفس التفكير سواء على مستوى مبادرتى أو حتى على المستوى الشخصى، وحتى لو تقاعس أو أساء لى أحدهم، أعتبر نفسى المسئول أننى منحته المساحة ليفعل.
بدت النقطة الأخيرة مناسبة لسرد ذكرياتى وفلسفتى فى الحياة، وكما هو معلوم، كلنا يتضايق لو أغلقت فى وجهه فرصة لسرد قصة حياته، لذلك، تضايقت -كالعادة- عندما اكتفى المحاور، وقرر طرح علامة استفهام جديدة.
أعتقد أننى قدمت إجابات متماسكة، ربما متماسكة كثيرًا لدرجة ضايقتى، خصوصًا فى الجزء الخاص بحبى للتنوع، وأننى لا أحمل أى تحفز سلبى مسبق تجاه جنس أو لون أو ثقافة.
لم أكذب بالطبع، لكنه جزء من الحقيقة، وليس كلها.
فاضطررت أن أضرب إسفينًا فى صورتى الناصعة المزعومة، حدثتهم عن أن وجود عيب واحد، ألا وهو الحساسية المفرطة التى قد تجعلنى أنسحب لسبب ربما يبدو بسيطًا، أو على أقل تقدير، يجعلنى أنزوى جانبًا لأتابع الفاعلية بصمت تام.
- وما السبب الذى قد يجعلك تنسحب، أو تصمت؟
- سبب واحد فقط؛ أن أتلقي إهانة، -لحظة صمت- المشكلة أن هذا البند يطوى تحته قائمة طويلة مطاطة، أعلم أن هذا شئ لا يستحب قوله فى مقابلة شخصية، لكن لم يكن بوسعى ألا أكون صريحًا.
بدأت منذ أيام أول لقاءات (تشبيك)، ولم أكن موجودًا ضمن المشاركين النهائيين.
أعتبر أن كلامى الأخير له دور فى ذلك، ومع ذلك، لم أندم إطلاقًا على حرف منه.
أعتبرتها فرصة أن أعيد تقييم خططى القادمة، خصوصًا فكرة؛ إنضمامى لبرامج قائمة على (الحوار) و(الإندماج)؟ هل أنا صالح للإندماج أو الاستهلاك الآدمى حتى؟
شئ آخر أهم: لحظة الاغتراب تلك وسط باقة من فرسان العمل المجتمعى؟ لم أنسها أبدًا، فماذا أفعل مستقبلًا، هل أنفتح على الأوساط، أم أكف عن التشتت وأنخرط فى الدروب التى تستهوينى فقط: (الكتابة، الإعلام، الخيال العلمى والفانتازيا، إدارة المشروعات الثقافية)، هناك سأقف على أرض مألوفة أصلب كثيرًا.
بالتأكيد أربح من تواجدى فى أى فاعلية أيًَا كان نوعها، فأنا هاوى للكتابة، أى أن كل مكان/ أشخاص ألتقيهم، يمثلوا ذخيرة لأبطال قصص محتملين، المشكلة أننى حينها سأشغل مقعد غيرى أولى به، كونه أكثر انتماءً وإخلاصًا لمجال الفاعلية.
على ذكر الأرض الصلبة منذ قليل، أهدانى القدر مساحات شاسعة منها.. هناك.. فى فضاء كافتيريا محطة رمسيس..
قالت لى إحداهن ذات مرة:
- "لماذا لا تأتى كثيرًا، نتمنى لو تكررها كلما أستطعت".
ليس لفرط روعة صحبتى، بل لأن وجودى حمّس عدد كبير من دائرتنا المشتركة للتجمع، مما نتج عنه يوم رائع فى شارع المعز.
تطوع صديق -وقتها- للإجابة عنى:
- نلتقى لأجله خصيصًا، لأنه لا يأتى كثيرًا، فلو أصبح وجوده مألوفًا كما تطلبين، لن يعيره أحدنا اهتمام.مطحنة المدينة  قاسية لا ترحم، فلم ينج منها يومها إلا فاطمة ماضى، شقيقتى الكبرى التى جاءت لوداعى.
ميزة الكافتيريا أنها تطل على حيث سيحط قطارى بالضبط، فظللت أسترق النظر إلى الرصيف 8 بين الفينة والأخرى:
- أحتار هل أطلب لى فانتا برتقال أم تفاح؟ ما رأيك أنت يا فاطمة؟
- تفاح.
- تمام، بالبرتقال لو تكرمت.
تجرعت مع البرتقال عشرات من لحظات السعادة، لحظات -كما أخبرتكم سابقًا- وددت خلالها لو أهلل بصوت عال، أو أضرب الأرض بقدمي كطفل، لكن للأسف، أكدت لي والدتي أكثر من مرة أنني كبرت.
حدث ذلك أثناء حديثى مع فاطمة، كلنا نعتبرها الأخت الكبرى التى تساند الجميع، ثم أضاف إلينا القدر انضمام عصمت علوان، صديقة قاهرية، تمت لى بصلة قرابة قبلية.
أخبرتنى فاطمة أن هناك آخرون قادمون، أو على الأقل يسعوا جادين للقدوم، لو أسعفهم الوقت وظروف العمل.
- الغادة التى لم أرها منذ عام كامل: غادة محسن، إعلامية، نصف مصرية نصف يمنية.
- ابتسام أبو دهب: زميلة ورشة إبداع (بيت السنارى)  سابقًا، والصحفية باليوم السابع حاليًا، (نفس الورشة التي تعرفت فيها على عبد الرحمن لو تذكرون، والمفارقة أنهما لا يذكران بعضهما).
الحديث مع زملاء الإعلام ذو شجون كأقصى ما يكون، ابتلانا الله بحب مجال موحش، له ذاكرة السمك، قد أقدم موضوعات مدوية طوال عام كامل، فإذا استزفت نفسى، أو غبت أسبوعين تحت أى ظرف، قد أعود فأجدهم منحوا مقعدى لغيرى.
لا راحة، لا أجازات، لا تقدير مادى، ولا حتى معنوى.
نظرت للغادة والبسمة، ووددت أن أقول الكثير، بقدر ما سررت للقاءهم، بقدر ما ألجمنى العجز.
حلمت بيوم أراهم فيه ذوى أسماء لامعة، فأفتخر بأننى أعرفهم، سيأتى هذا اليوم حتمًا، فنعرف أن كل الإرهاق الحالي.. يستحق .
قررت أن أنظر إلى الجانب المشرق من الموضوع، ها نحن موجودون، سويًا تنتفس.
لولا أن أضيف إلى المكان نسمة غير متوقعة، خيل إلىّ أننى أعرف هذا الوجه جيدًا، ناديت:
- ياسمين؟!
تخيل أن تأتى من أسوان لمدة 12 ساعة، ثم تجنح إلى كافتيريا فى نهايتها، ما احتمال أن تلتقى مسافر من الشرقية، جاء لنفس الكافتيريا كى يحتسى مشروبًا.
ياسمين إمام (شغف)، كاتبة مسرحية، وزميلة سابقة فى رحلة (شمال وجنوب) الطويلة.
بعد عودتى اكتشفت أن هناك أشياء أكثر كان يمكننى قولها فى لحظات كتلك، اقتراحات، لوم ربما، أو حتى إجابات على أسئلة معلقة من زمن سابق، لعل أقربها:
- لا أصدق أنك ممن يعتقدون فى هذه الأشياء لكننى -على أى حال- حوت، برج الحوت.
للأسف؛ لطمة المصادفة تسرق أى سرعة البديهة، فلم يكن هناك أى شئ مما سبق، نفس الشئ فى مكالمة حسام ولقاء عبد الرحمن صباح نفس اليوم، امتدادًا إلى مصادفة رؤية كل هذا العدد من الزميلات، ثم -بعد بعض التفكير، وجدت أن هذا أفضل.
لطالما اختقنت فى طفولتى، من عبارات مبتورة لم أكملها، من قصص لم أتم جزئها الثانى، عندما كبرت رأيت المسألة بزاوية أوسع، إذ سألت نفسى:
- لِمَ لا يكون النقص  هو سر سحر الصورة؟ توفى الكاتب (تساو- شيويه- تشين) قبل إكمال الرواية الأشهر (حلم الغرفة الحمراء)،  أليس واردًا أن جزء من أسطورية العمل، يرجع أنه غير مكتمل!
من يدرى، لعل البتر المفاجئ يعد بوصل آخر -مفاجئ أيضًا- فى وقت آخر، ألم اكتشف أن (فرحة حماد) حجزت على نفس القطار الذى سأستقلهَ!
كم غير متوقع من المفاجآت السعيدة، يفوق كثيرًا ما أعتقد أننى أستحقه.
- "خير اللهم اجعله خيرًا، أشعر أنني في انتظار مصيبة قادمة لا ريب، محال أن أحصل على كل هذه البهجة فى يوم واحد، دونما ضريبة".
وبالفعل، لم يتأخر ظنى، فحصلت لى أكثر من مصيبة عقب عودتى مباشرة، وبقدر ما تضايقت، بقدر ما وجدت جزء منى يستقبل الأمر بهدوء، ويراه عادل تمامًا.
شكرًا للجامعة الأمريكية على أنها منحتى يومًا ظريفًا، شكرًا لوجوه الصدفة، ولقاءات عابرى السبيل.
بفضلكم جميعًا، جربت كيف (قد يفاجئنى بوق بعث بلا تخطيط أو توقع منى)،
وأظننى استحببت صوت نفيره.
ياسين أحمد سعيد
14 مارس 2016 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"