الأحد، 15 أكتوبر 2017

ومن قلب الأم ما قتل

في النبطشية الأخيرة أثناء شغلي في المستشفى، توقفت طويلًا قدام أب وأم جايين بصحبة طفلة، دراعها ملفوف بـ (حامل ذراع).
طلبت أشوف الورقة اللى أدهالهم الدكتور، ويفترض إنه بيكتب فيها نوع الأشعة بالضبط.
فاكتشفت إنهم ممعهمش ورقة، يعني مش جايين من قسم الطوارئ ولا حتى من دكتور خارجي.
طب هتوروها لمين؟ إنت ممكن تعمل أشعة دلوقتي، ولما تروح للطييب يقولك "مش هوا دا الفحص اللى أنا محتاجه، أو يلقى إن الحالة بسيطة، ومش محتاجة أشعة أساسًا، فتبقى دفعت فلوس ع الفاضي؟
شرحلي الأب إنهم عملوا الأشعة قبل كدا بالفعل، والدكتور قالهم إن الطفلة محتاجة جبيرة.
هزيت دماغي بما معناه (طب وبعدين؟ ليه مش شايف جبيرة؟).
فتدخلت الأم:
-بس خفت عليها، ومرضتش.
-عفوًا، عشان بس أحاول أفهمك صح، إنت تقصدي إن الدكتور قالك: عندها شرخ أو كسر، لازم (جبيرة). فأنت قلتيله (شكرًا)، وأخدتي الطفلة، وروحتي، صح كدا؟
عايزكم تتخيلوا منظري، وأنا بحاول أستوعب المعلومة الأخيرة.
تقريبًا مشفتش حالة مشابهة من الأمهات، غير زماااااااااان، أيام مكنت شغال في الأقصر الدولي، زرانا في قسم الطوارئ، أم وأب معاهم طفل مصاب بجرح بسيط في دقنه من تحت، هيحتاج غرزتين في السريع.
اتفاجئنا إن قلب الأم مش مطاوعها، وبتسأل عن بديل للخيوط الجراحية.
اقترح الدكتور بمنتهى الصبر، إن فيه نوع من التقطيب بدون غرز (شبه اللي بنشوفه في الأفلام الأمريكاني) ، لكن ساعتها ممنوع أي لعب أو هرش في الجرح، أو حتى يتعرض للمية (ودا صعب جدًا في ضوء إن المريض "طفل")، وإلا هنضطر نرجع نغرزهم برده في النهاية.
طبعًا، ممكن يبان قلق الأم مستفز جدًا، من منطلق إنها عمالة تتناقش في رفاهيات، خصوصًا إن الجرح في منطقة مش ظاهرة أساسًا تحت الفك، أو زي موضح الدكتور:
-لاحظي إن مفيش كام سنة، هيظهرله دقن، هتغطى منطقة الجرح (اللي هوا أساسًا مش متشاف دلوقتي، إلا لو فيه حد نزل على ضهره ع الأرض، وبيبص ع الولد من تحت).
لكن.. عمومًا، أنا ملتمس العذر للأم، لأن كان موجود قدامها بدايل، فمن حقها تناقش البدايل دي.
أما الأم اللي حكيت عنها في الأول، مش عارف بتفكر إزاي!
المشكلة، إنهم مشوشين جدًا ومش عارفين حتى يعملوا إيه، يروحوا يكشفوا في الطوارئ؟ بس الدكتور النبطشي بيبقى نايب، مش أخصائي؟ طب يشوفوا عيادة خارجية؟ الوقت اتأخر جدًا، وفي الأغلب، مفيش حد فاتح ساعتها.
يعملوا الأشعة وييجوا بيها بكرة للعيادات الخارجية؟ ولا ينزلوا مستشفى (كوم أمبو) المركزي، لأن في الأغلب، بيكون فيها أخصائي سهران.
الأب كل لما يقرب من إنه يأخد قرار، نشوف الأم من ارتباكها، بتقاطعه أو تشوش عليه باختيارات واحتمالات جديدة.
قالتلي إن زيارتهم بالطفلة للدكتور كانت من أسبوع تقريبًا، يعني مر المدة دي كلها بدون جبيرة، فالألم رجع تاني، دا السبب في اضطرارهم لعمل أشعة مرة تانية، مش كدا بس.
كشفتلي الوالدة دراع البنت عشان توريني مناطق كانت زرقا، اتحولت دلوقتي للأصفر.
بغض النظر عن إني مش دكتور، وإن دا مش شغلي، لكن بصيت على أي حال.. و... مشفتش حاجة.
-أهو؟ مش ملاحظ البقع الصفرا.
أخيرًا، نجحت أميز –بصعوبة- الشئ اللى بتشاور عليه، جايز عشان مش فارق كتير لون بشرة البنت.
فحاولت أدافع عن نفسي غريزيًا:
-يا مدام، حاولت زماااان أبقى رسام، بس فشلت لأسباب كتير، منها معنديش قدرة أوي، أميز ألوان متقاربة من بعض للدرجة دي.
وجهت كلامي للأب، عشان ننجز في الليلة الجميلة دي:
-بص يا أستاذ، من ناحيتي، بعتبر الأمهات فاقدي الأهلية في المسائل دي.
قاطعتني بابتسامة:
-شكرًا.
هزيت دماغي بالتواضع المعتاد، وكملت:
-فالعيب مش عليها، هيا أم، العيب عليك إنت.
طالما الدكتور قال إن الحالة يلزمها جبيرة، يبقى... يبقى محتاجة جبيرة، مش لاقي شرح أو أوبشنز تانية ممكن تضاف في الموضوع.
ومع ذلك، حاولت أكلمهم باللي فتح عليا بيه ربنا، عن مخاطر التئام كسر على وضعية خاطئة، أو الأضرار المحتملة اللى ممكن تبان بعدين.
بالمناسبة، أنا من أكتر الناس اللى مقتنع بأننا –كبشر- بنكمل بعض، فبنحتاج في محيطنا المباشرة طول الوقت، وجود بني آدمين عاطفيين جدًا (مش شرط ستات، فيه رجالة عاطفيين برده)، جنب العقلانيين.
بسبب الموقف دا عمومًا، حاولت أتخيل لو مريض محتاج (بتر)، وإلا هتمتد الغرغرينا لبقية جسمه، إيه اللي ممكن يحصل لو مكانش موجود غير أمه أو مراته أو بنته، ومطلوب منها تمضي على إقرار؟!
ربنا يستر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"