السبت، 25 فبراير 2017

من كتاب (نبوءات الخيال العلمي)| منجمون في معاطف العلم

من أشهر المتنبئين على مر التاريخ (ميشيل دي نوسترادام) (1503-1566)، أو كما تعرفه الكتب بالمرادف اللاتيني لاسمه (نوسترداموس)، بدأت رحلة حياته كطبيب فرنسي غريب الأطوار، يجوب البلدان سعيًا لمواجهة (الطاعون) الذي اجتاح أوربا، مات زوجته وأولاده أنفسهم أما عينيه إثر الوباء، فانكب على العلوم الماورائية، ونظم نبوءاته على شكل أبيات شعرية قصيرة، جمعها في كتاب أسماه "قرون".
انبرى المعارضون للتشكيك فيه، وانقسموا ما بين مخمن أنها مجرد تفسير لرموز الكتاب المقدس التي يقال عنها Bible Code، وما بين قائل أن طبيعة النبوءات مبهمة بالأساس، وقابلة لأكثر من تفسير، ومن ثم يلبسها الناس لكل الأحداث الكبرى التي تحدث حولهم، أو كما قيل على حد تعبير أحدهم: يقومون بتفصيل الكلمات على اللحن".
لنأخذ على سبيل المثال نبوءته:

ستصدر من الجماهير المستعبدة أغاني وأناشيد وطلبات
بينما يلقى القبض على الأمراء واللوردات ويودعون في السجون
وهؤلاء سوف يسلمون إلى أغبياء بدون رؤوس كصلوات مقدسة

البعض هام انبهارًا بهذه النبوءة الهلامية، وقال أنها تنطبق بالضبط على الثورة الفرنسية عام 1792م، في حين أننا لو دققنا النظر جيدًا، سنجد أن الجميع يستطيع أن يقيسها على 90% من الثورات، فجميعها تبدر عن جماهير صاخبة بالتنديد والمطالب، ويلقى القبض على رموز النظام الفائت، ويتم التعامل معهم بأقصى درجات البطش.
ويستمر خلفاء (نوستراداموس) أمثال (إدجار كايس) وغيره، حتى قرر رجال الدين اتخاذ  موقف، قرروا رسم المستقبل –بدورهم- مع فارق وصفهم الصريح لنصوصهم -منذ البداية- بأنها مجرد "تخيلات"، وقد وجدوها مجالًا جيدًا للتعبير عن فكرهم، سواء بغرض التبشير أو التحذير، ففي عام 1723م، طرح القس (صامويل مادن) كتابًا خياليًا أخد شكل رسائل تحذيرية، مصدرها سفراء بريطانيا في المستقبل، بالتحديد في عامي 1997م و1998م، أي حاول المؤلف فيها استباق عصره بحوالي قرن ونصف، فأطلق عليه "ذكريات القرن العشرين"، وطبعًا –بحكم عمله- ركز بالأساس على توقعاته للأحوال السياسية والدينية، ومدى المخاطر التي ستنال الغد إذا سيطر عليه الكاثوليكيون واليسوعيون.
شاركه التقاط الخيط، مواطنه وزميل مهنته (جوزيف جلانفيل)، الأسقف السابق لعصره، الذي وثق توقعاته حول مجتمعات المستقبل، وارتقى إلى هذه التوقعات بناءً على "مقدمات" و"نتائج"،  بمعنى أنها امتلكت حد أدنى من المنهجية العلمية، وتكررت مثل تلك الاجتهادات من غيره مرارًا، أقربها من جيرانه الفرنسيين، والذين –كما نعمل- حازوا كلمتهم الباكرة في المجال، بشقيه:
- عبر (نوسترامادوس) كنموذج للاستبصار القائم على التنجيم.
- (لوي سباستيان مرسييه) لذاك النوع الآخر القائم على التخيل.

ففي عام 1770م سجّل الثاني ما أسماه (مذكرات العام ألفين وخمسمائة)، حقق الكتاب شعبية واسعة عبر عنها نفاد الطبعات الأولى سريعًا، بما أعتبره دليلًا على ظمأ المزاج الفرنسي –وقتها- للتفاؤل، فالكتاب ينحاز لتقديم تخيل رومانسي لباريس في المستقبل، وكيف صارت جنة للعدل والمساواة، بلا عبودية.. مرض.. فقر!
عاد نبض التغيير إلى الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، هناك أسس (هربرت جورج ويلز) لريادة أدب الخيال العلمي، وبث فيه رؤاه المستقبلية الثاقبة، وكأنما وجد ذلك غير كافٍ بعد فترة، فقرر الإسفار عن هذه الرؤى بشكل مباشر، وهو ما أثمر في النهاية عن سلسلة مقالات دورية مباشرة عام 1901م، كونت تصور لشكل العالم حتى عام 2000م، وبعد وفاة ويلز، أنشأ خلفاؤه الرابطة البريطانية لأدب الخيال العلمي (BSFA).
قرأت في موقع شبكة ANN  الإخبارية، أن نفس الرابطة سارت على درب الريادة، فسبقت عصرها باقتراح وزارة اختصاصها قائم على "استباق العصر"، وزارة للمستقبل.
للأسف، لم تجد هذه الرؤية السديدة تقديرًا لدى الساسة، واعتبروا أصحابها حالمين أكثر من اللازم، فاستمرت المحاولات فردية من قبل مؤلفي الخيال العلمي.
لاحظوا أننا هنا نتحدث عن التخيل العلمي من منظور أوسع، كمنهج وطريقة بحث، وليس فقط أدب وفن، فلو أردنا جذب الشق المنهجي من بداية خيطه، نجد أن الألماني (أوسيب ك فليتشهتايم) عام 1949م، أول من جعل مصطلح "مستقبيليات" كأقرب ما يكون فرع علمي مستقل، حيث عنون به كتابه "التاريخ وعلم المستقبل".
ثم نعرج إلى الباحث (جاستون برجيه)، فهو أول من استخدم كلمة (استشراف) (Prospective)، وخرج بها من حيز المجهود الفردي، فأنشأ  سنة 1957م المركز الدولي للدراسات المستقبلية، والذي صدر عنه دورية هامة أطلقوا عليها (بكراسات الاستشراف)، ثم انتقلت العدوى عبر المحيط، ليجنح الجنرال الأمريكي (هنري هـ أرنولد) إلى "عسكرة" الفكرة، وتأسيس مؤسسة "راند RAND " كاختصار لـD evelopment  R esearch AN d .
توفر للرجل حماسة تجاه المبدأ من ناحية، ومن الناحية الأخرى، صلاحيات منصبه كقائد للقوات الجوية، علاوة على علاقته بشركة "دوجلاس" للطائرات، فنشأ البرنامج في بدايته برعاية الأخيرة، بهدف التخطيط بعيد المدى للأسلحة المستقبلية، ثم توسع نشاطها بعد ذلك كمؤسسة غير ربحية، تقدم استشرافات رائدة ساهمت في تطوير برنامج الفضاء الأمريكي، الانترنت، الحوسبة، الذكاء الصناعي، مكافحة الإرهاب، كما لم يغفلوا القضايا المدنية التي تمس الأمن القومي، مثل العدالة القضائية، التعليم، الصحة.
ثم حدث اللقاء الهام في مطار (لاجوارديا)، عندما التقى (هنري هارولد) بالعالم (تيودور فون كارمان)، صاحب الصولات والجولات في الفيزياء والرياضيات والطيران، ووجه الأول نصيحته إلى الثاني، بأن يغادر إلى العاصمة، ليعمل معهم.
وكم كانت عين (هارولد) صائبة، نظرًا للدور الهام الذي قام به (كارمان)  في تقرير (نحو آفاق جديدة) الذي استطلع القدرات الأميريكية التكنولوجية، واحتياجاتها على المدى البعيد.
اقتنع الباحث المخضرم، فترك عمله المرموق في معهد (نيويورك) التكنولوجي، ليستلم منصبه الجديد كمستشار للتنبؤ التكنولوجي بعيد المدى بالجيش، وهو المنصب الذي تطور ليأخذ شكل مركز بحثي كامل.. ومستديم.

وبالتوازي مع النشاط الاستشرافي وراء الأسلاك الشائكة للعسكريين، تأسست عام 1966م (جمعية مستقبل العالم) بشيكاغو، وتشتهر بمؤتمرها السنوي الذي يرتاده مستقبليون متخصصون في مختلف المجالات.
كما حقق هذا العلم نجاحات كبرى في الظهير الاجتماعي، فتمكنت كلية "أليس لويد" (قبل ثلاثين عاماً) من التنبؤ بتطور المجتمع الأمريكي، ووضعت منذ عقود خريطة للمشاكل الأسرية التي ظهرت هناك الآن.
على نفس الصعيد، استطاعت جامعة "كورنيل" قبل عقدين رسم تصور للمستقبل الاجتماعي والبصمة السياسية للأقليات العرقية في أمريكا، وجاء هذه التصورات دقيقة إلى حد كبير.
من العلامات الفارقة أيضًا، الباحث (ألفين توفلر)، صاحب الشهرة الواسعة لدينا في الوطن العربي، لدرجة أن نطق كلمة "المستقبليات" صارت يذكرنا به مباشرة، ففي عام 1974م ترجمت دار (نهضة مصر) كتابه (صدمة المستقبل)، لينل رواجًا واسعًا لفت الأنظار العربية إلى مؤلفه، فعرفنا أكثر عن اسم (توفلر)، الذي درس علي يديه قادة دول مثل الرئيس السوفيتي (جورباتشوف) ورئيس الوزراء الماليزي (مهاتير محمد)، ونظيره الصيني (زهاو زيانج).
استمر عطاء الباحث الأمريكي، بإصدار عناوين أخرى هامة، بمساندة من زميلة المهنة وشريكة حياته (هايدي توفلر)، أبرزها؛ (المستقبيلون)، (تعلم من أجل الغد)، (الموجة الثالثة)، وغيرها.
تحدث المفكر (خالد بكر) عن العنوان الأخير، فيصف أثره الفارق بقولته:
ـ "كان يتحدث عن إعادة النظر ببناء الأشياء. ففوجئ ذات يوم، بدخول جنرال أميركي عليه، ليبلغه بأنهم قد ترجموا كتابه وعمله كله إلى السياقات العسكرية. ثم استخدمه الجيش الأميركي في استقراء المستقبل وإعادة بناء القوة العسكرية. كتابه “الموجة الثالثة” هو الذي أخرج أميركا من عقدة فيتنام".

***********

فيلم.. وقف أمام كاميراته (توم كروز)، وخلفها مخرج كـ (ستيفن سبيلبرج)، من الطبيعي إذن ينتج لنا عمل فني كـ (Report (Minority،  خصوصًا مع الحبكة مستقاة من قصة للاستثنائي (فيليب ك ديك)، وتتحدث بالأساس عن موضوع هذه الصفحات؛ (استبصار المستقبل علميًا)، في الواقع، منذ أول حرف كتبته هنا، لا أستطيع أن أبعد عن ذهني (Report (Minority، كمرادف للثيمة.
يتناول الفيلم عالمًا بلا جرائم قتل.. يعود الفضل إلى ثلاثة من المتنبئين الصغار أو (البريكوجزPrecogs ) الذين يتم الاحتفاظ بهم في حالة شبه سبات، وبناء على المسح المستمر لرؤاهم الذهنية؛ تتحرك الشرطة المتخصصة فورًا للقبض على الجناة، قبل ارتكابهم الجريمة.
يفتح السيناريو أفق الأسئلة، أمام هذه النقطة تحديدًا، صحيح أن القتل اختفى من المدينة، لكن.. كيف نعاقب شخصًا على جريمة لم يرتكبها بعد؟ ماذا لو أمكنهم تغيير مستقبلهم.
زار مفتش النيابة (كولن فاريل) قسم مكافحة (ما قبل الجريمة)، فضاق الضابط (توم كروز) من أسئلته المتكششة، وسأله مباشرة:
-ما الذي تبحث عنه بالضبط؟
-شوائب.
وجود نبوءة واحدة خطأ أو مشكوك فيها، لهو كفيل بهدم النظام بأكمله.
لا أريد حرق هذا الأحداث، إلا أن لحظة الاختيار في ختامه، أعتبرها بمثابة حبة الكريز للفيلم بأكمله.
ولا ينافسها في القوة، سوى إحدى حلقات مسلسل (The fridgeهناك تم تناول الاستبصار بطريقة مختلفة تمامًا.. طريقة رياضية هذه المرة.
خصم الحلقة؛ شاب متأخر عقليًا، تم إدخاله في تجارب لتنمية الذكاء، فتحول إلى عبقري في علم الاحتمالات، هذا رجل لا يدعي التنجيم.. أو النظر إلى المستقبل عبر بلورة.. اقتصرت المسألة برمتها على علم الإحصاء، فتبدأ عملياته باختيار مسرح الجريمة، علاوة على حساب ردود فعل الضحية، ثم دفعها إلى المكان والزمان المرادين بالضبط، ليقلوا حتفهم بصورة طبيعية بريئة، أبسط مثال، كأن يستفزك -بملء إرادتك- لاتخاذ مسار ما، فيتقاطع طريقك مع سيارة تصدمك، يعلم هو –مسبقًا- توقيت مرورها.
استعمل الرائد (إيزاك أسيموف) نفس فكرة (التنبؤ الإحصائي) منذ الخمسينيات؛ وخص بها الشخصية الخيالية (هاري سيلدون)، بطل سلسلته القصصية (المؤسسة)، الذي ينسب إليه تأسيس علم جميع بين الإحصاء/ التاريخ/ علم النفس، استنتج بواسطته قرب نهاية إمبراطورية المجرة، ودخولها عصر اضمحلال سيمتد إلى 3000 عام، استنزف (هاري) نفسه في إجراء المزيد من الحسابات، وبالكاد وجد طريقة تقلص زمن التدهور إلى ألفية واحدة.

**********
-
لتحميل كتاب (نبوءات الخيال العلمي) كاملًا.. من (هنا). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"