السبت، 25 فبراير 2017

من كتاب (نبواءات الخيال العلمي)| أعمدة الاستبصار الخمس

عندما أراد (هوجو جيرنسباك) عام 1926م  تعريف الخيال العلمي قال أنه: "خيال ممزوج بالحقائق العلمية والرؤية التنبؤية"، وكي يقربه للأذهان أكثر، أضاف "وبالذات هو ما يكتبه جول فيرن وهـ. ج. ويلز".
ولد (ويلز) في 21 سبتمبر 1866م بمقاطعة (كنت) البريطانية، بينما يمكننا اعتبار سنة 1874م بذرة ميلاده الحقيقي كهاوي للأدب، بدأ التحول عند إصابته بكسر في الساق، ألزمه الفراش مدة طويلة، فبحث عن السلوى في الكتب، لكن للأسف.. لم يقدر لهذه البذرة أن تمر بالمراحل الطبيعية، إذ اضطرت الظروف (ويلز) عام 1880م لترك المدرسة، حتى جاءت الانفراجة عام 1883م عندما اقتنص منحة بأحد مدارس لندن.
وما بين التاريخين، عاني مع الأسرة جراء توابع الاضطرابات المادية للوالد، علاوة على الهوة الموجودة مسبقًا بين أبوين أحدهما ليبرالي متحرر، والأم بروتستانتية محافظة.
كل هذه العوامل أثرت على ويلز لاحقًا، حتى بعد ما أن بدأت الأمور بالتحسن، ودرس على يد قامات كبير، ليس أقلهم (توماس هنري هاكسلي)، جد (ألدوس هكسلى)..
افتتح ويلز حياته الأدبية عام عبر رواية (آلة الزمن)، التي أثارت ضجة شديدة، مما حمسه لأن يتبعها بـ "جزيرة الدكتور مورو" عام 1896م، و(الرجل الخفي) عام 1897م، وغيرها.
الحدث الأبرز في نبوءات ويلز برز إلى السطح قبيل عام 1901م، وجاء في هيئة مقالات مسلسلة نشهرها بالصحف، ثم تم جمعها بين دفتي عمل معجز واحد  أسماه التوقعات (Anticipations)، استشرف فيه أحوال العالم بعد قرن من الزمان.
ويلز ليس نبيًا أو رسولًا، لكنه أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الخيال قادر على تحقيق الإعجاز، وعندما يضاف إليها تفكير علمي مبدع، سينتج لدينا عين قادرة على استبصار الغد.
جانب (ويلز) الصواب في بعض تصوراته، مثل تحديده للتاريخ التي ستحقق فيه حلم الطيران، بأنها لن تكون قبل 1950م، علاوة "الغواصة"، التي لم يعتقد بنجاحها أبدًا.
في حين تحققت الكثير من نبوءات الكتاب بدقة تدعو للدهشة، وتنوعت هذه النبوءات ما بين تكنولوجية وسياسية واجتماعية، فتوقع إنشاء اتحاد أوربي، ذوبان الأخلاقيات في مقابل زيادة الحريات الجنسية، فضلًا اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1940م، وبدأت بالفعل سنة 1939م، أي أنه أخطأ في عام واحد فقط.
في كل الأحوال، مخطئ من يظن أن (ويلز) اكتفى بمكانته كمؤسس للخيال المستقبلي، فقد اتسعت رقعة تجربه، لتشمل الماضي أيضًا، عن طريق مجلدين بعنوان (الخطوط العريضة للتاريخ)، تبعهم بمرجع علمي دسم في تخصص (الأحياء)، كتبه بالاشتراك مع ابنه (جورج فيليب) بالإضافة إلى (جوليان هكسلي)، وحتى كتب تقترح ألعابًا تعليمية للأطفال على قرار (ألعاب الكلمة) و(حروب صغيرة)، ثم خرج عن نطاق الأدب بكامله.. وكانت له رؤاه الاجتماعية، وهو ما نراه مستترًا في صراع الطبقتين داخل رواية (آلة الزمن)، أو لمسناه بشكل مباشر في المقالات.
في الأخيرة بالذات، جاهر (ويلز) بميوله السياسية الاشتراكية، وفي الوقت نفسه، لم يخش إعلان موقفه المناهض للنازية، لدرجة أن الألمان –أثناء الحرب العالمية الثانية- أعدوا قائمة للمطلوبين، في حال نجحت عمليتهم (أسد البحر) في اجتياح الجزيرة البريطانية، كان بينها اسم (ويلز).
احتفظ الرجل بنفس شجاعته، وهو يخوض سجالات فكرية مع أعلام عصره، في الأدب، والعلم، والسياسة، إلخ.. إلا أن أغلبهم ظل يحتفظ باحترامه لهذا الرجل النادر، فيقول عنه (برنارد شو):
- "لم يسبق له أن تصرف كرجل، ولا كمساعد في المحل "مهنة ويلز الأولى في صباه"، ولا كمدرس، ولا كأي شخص على وجه الأرض، سوى نفسه.. أي ساحر كان!"
من ناحيتي، أحار في تحديد مزاجية (ويلز) هل كانت أقرب إلى التفاؤل.. أم التشاؤم!
تارة يسترسل نبوءاته المقبضة عن مستقبل الانسان والعلم، وتارة أخرى يؤلف كتابًا عن حلمه باندماج العالم تحت مظلة حكومة موحدة، أسماه (نظام عالمي جديد).
ظل (ويلز) على نفس النحو المتقلب، في حياته العاطفية كذلك، نضيف عن ويلز فلم يكن زوجًا مخلصًا تمامًا، عام 1891م تزوج ابنة عمه، واستقر معها في لندن، وبعدها بثلاثة أعوام، انفصل عنها من أجل عيون إحدى طالباته، التي صارت أم أطفاله (جورج فيليب) و(فرانك ريتشارد) فيما بعد، ويعتقد أنها كانت الزوجة الأنسب، لأنها الوحيدة التي تعاملت بتسامح مع نزواته المستمرة، التي نتج عنها طفلين آخرين هما (أنا- جين) و(أنتوني).
في النهاية.. رحل ويلز في 13  أغسطس 1946، وغادر عالمنا بتفاؤله، تشاؤمه، فلسفيته، علاقاته الغرامية، لكنه ترك لنا إرث لا ينسى، علاوة تأثيره الحاضر على كل مؤلفي الخيال العلمي من بعده، حتى الآن.

                                   
هو المغامر الجامح.. ابن مدينة (نانت) الفرنسية..
ولد (جول جابرييل فيرن) مطلع عام 1828 م، لأب يعمل محاميًا، وأراده للابن أن يكون مثله، فأرسله إلى مدرسة داخلية، ومنها إلى باريس لدراسة القانون، هناك عاصر الشاب الأحداث الكبرى مثل صعود بونابرت وإعلان الإمبراطورية، إلا أن نداهة الخيال انتصرت، ونزعته من هذا كله إلى أجواء أخرى أرحب.. إلى تجارب أولية في الكتابة بكافة أشكالها.. ما بين النثر والشعر والمسرح، بالإضافة إلى تردده على الصالونات الأدبية، هناك التقى عددًا من الشخصيات المؤثرة في حياته، على رأسهم الكاتب الشهير (ألكسندر دوماس) مؤلف (الفرسان الثلاثة) و(الكونت دي مونت كريستو)، المخرج (جول سيفست) الذي دبر له عملًا إداريًا في أحد المسارح، بالإضافة إلى الصحفي (بيتري شوفالييه) سلسل نفس مدينة (نانت)، وفي نفس الوقت، رئيس تحرير دورية (familles de Musée)، ومنه علم (فيرن) بحاجتهم إلى مواد تبسيطية للعلوم (سواء مقال أو قصص)، فقدم له –ضمن ما قدم- قصة بعنوان (أسبوع في منطاد)، جمعت بين المغامرة الأدبية والخلفية الموسوعية، فيمكن اعتبارها أول خطوة على الطريق الذي شقّه (فيرن) لنفسه.
أنهى الشاب دراسته للقانون، لتنفد قدرته على إتباع رغبات والده أكتر من ذلك، فرفض الالتحاق بسلك المحاماة، واستمر بعمله في المسرح، وإن ظلت عينه على احتراف الكتابة، لكن حتى ذاك الحلم لم يتحقق بسهولة، فقد عرض مسودة روايته الأولى على أكثر من دار نشر، قابلوها جميعًا بالرفض، حتى شارف (فيرن) على اليأس تقريبًا، غير أنه تعثر –أخيرًا- في الناشر (بيير هاتزيل)، فصدرت الرواية التي نعرفها -جميعًا- تحت اسم (خمسة أسابيع في منطاد)، أدى نجاح الرواية إلى ارتباط الاثنين بعقد طويل المدى، نتج عنه سلسلة الرحلات الاستثنائية (Extraordinaires)، التي تضمنت روايات مثل (عشرون ألف فرسخ تحت الماء)، (رحلة إلى مركز الأرض)، (مغامرات الكابتن هاتيراس)، وغيرها، جمع بينهن؛ التشويق/ تنوع مسارح الأحداث/ خلفية ثرية من المعلومات العلمية والجغرافية لدرجة تؤهلها أن تكون دليلًا موسوعيًا، فيقول الأميرال (بيرد) على سبيل المثال:
- "فوق القطب الجنوبي، كانت مؤلفات فيرن ترشدني أثناء رحلتي".
عام 1867م، استغل (فيرن) أحواله المادية المنتعشة، وقرر ألا يكتفي بالرحلات الخيالية، فاشترى سفينة صغيرة أطلق عليها (سانت ميشيل)، أبحر بها في جولات حول العالم.
وفي عام 1905م، وصل الرحلة إلى محطتها الأخيرة بالسماء، ليغادر المغامر (جولي فيرن) عالمنا.
فاستمر الخيال العلمي الفرنسي بعده، ليقدم أسماء مثل (جوستاف لروج) و(جان دلاهير)، (لاندره موردا)، ومع ذلك لم يصل أحدهم إلى شهرة الرائد (جولي فيرن).
وعندما يضع النقاد (ويلز) على الميزان في مقابل (فيرن)، باعتبار أن الأول (حكواتي) مسلي، بينما قدّم (ويلز) أعمالًا أكثر عمقًا وإنسانية.
كلام منمق، ولا أستطيع الاعتراض عليه، غير أنني لا أستريح للتعامل مع "التسلية" على أنها "سبة"، وأراها هدف راق بما فيه الكفاية، أما عن مقارنتها بأعمال أكثر فلسفية، هذا إهانة للأخيرة أكثر منه شيئًا آخر، أما لو أخذنا رأي (فيرن) نفسه، واضح أن هدفه اقتصر على "المغامرة" فحسب، ولما كان عصره متأخر علميًا، لم ينتظر الفرنسي الجامح، وأسرع يرتجل تقنيات خيالية يستكمل بها الصورة، فارتبطت أغلب نبوءاته بـ"وسائل انتقال" غالبًا، وليس بقضية المغامرة نفسها، وبمرور الوقت، تراكم هذا الزخم التنبؤي الذي صار مضرب المثل حتى الآن.
فنجده يتعامل مع المسألة بتصالح شديد، وينفي –في أغلب اللقاءات- عن أعماله تنبؤها بأي شيء، أو حتى أي بُعد علمي مقصود، ويقول:
-"لم أتظاهر –بأي شكل من الأشكال- أنني عالم".
في مقابل هذا التواضع، يصف (آرثر كلارك) رواية (من الأرض إلى القمر) –مثلًا- بأنها "مسودة لمشروع فضائي، واجهت جميع الصعوبات التكنيكية، وقامت بمحاولة جريئة لحلها.
ليس (كلارك) وحده، اعترف الأديب الروسي العظيم (تولستوي) بأن أعمال (فيرن) تسحره، وانضم إلى ركب المعجبين أسماء على غرار الفنان التشكيلي العالمي (سلفادور دالي)، ومخترع الغواصة (سيمون ريكو) وغيرهم.
حتى تكتمل الصورة عن (فيرن)، لا يسعنا إلا أن نذكر جانبها الاجتماعي، على حد وصف (محمد عبد الله الياسين):
-"أضف إلى ذلك حياة عائلية قلقة، وابنًا عاقًا متهورًا، فزوجته كانت تتهمه بالهوس والجنون، وابنه أطلق النار على عمه (أخي جولي فيرن)، ورغم ذلك، استطاع أن يحوز الشهرة والمجد في فرنسا والعالم، وعندما توفي.. خرجت فرنسا خلف جنازته وشيعته كأنه قديس راحل".

حذار أثناء نطقك الاسم، فصاحبه يتضايق إذا أخطأه أحدهم، لدرجة أن كتب قصة بعنوان (انطق اسمي بحرف السين).
بالروسية (Айзек Азимов).
بالانجليزية (Isaac Asimov).
أما بالعربية فهو (إيزاك أسيموف).
ولد (أسيموف) في 2 يناير عام 1920م، لأسرة يهودية تعيش بـ (بتروفيش) جنوب غرب موسكو، لكنه لم يعِ هذه الفترة، لأنهم هاجروا به وهو دون الثالثة، ليحطوا رحالهم في ولاية (نيويورك) الأمريكية.. (بروكلين) تحديدًا.
امتلكت الأسرة محلًا للحلوى، وكما هو معتاد في هذه النوعية من المتاجر هناك، كانوا يبيعون الصحف أيضًا، فوقعت يد الفتي على مجلات الخيال العلمي الرخيصة، (موجة من دوريات المغامرات الاستهلاكية زهيدة الثمن، حازت رواجها الأكبر خلال النصف الأول من القرن العشرين)، فغدت الجسر الذي سحبه إلى عالم (الخيال العلمي)، وكما يقولون (كل قارئ شغوف، هو كاتب محتمل)، فاستهل (أسيموف) تجاربه الأدبية بفن القصة القصيرة، وراسل بهم عدد المجلات، في مقدمتهم (الخيال العلمي المدهش)، إلا أن رئيس تحريرها (جون كامبل)، رفض، نعم.. قد يصعب تصديق ذلك.. لكن –بالفعل- الأسطورة (أسيموف) لم يولد عملاقًا، وله قصص قوبلت بالرفض –مثل الجميع- أثناء مرحلة البدايات، وللحق، فقد تطور بسرعة، مستفيدًا من ملاحظات (كامبل)، حتى ظهر اسمه -لأول مرة- على صفحات مطبوعة عام 1939م، مرفقًا بقصة "هارب بعيدًا عن فستا"، وكنوع من رفع سقف التحدي، انتقى (كامبل) اقتباسًا شاعريًا ينتمي إلى (رالف إيمرسون)، يقول: "لو أن النجوم تظهر ليلة واحدة كل ألف عام، فكيف يؤمن البشر -يا تُرى- ويعبدون ويحفظون ذكرى مدينة الله، جيلًا بعد جيل"، طلب (كامبل) من (أسيموف) تأليف قصة مستوحاة من الفقرة السابقة، وهو التحدي الذي قبله الكاتب الشاب، لينتج عنه إلى إحدى أشهر قصصه (حلول الظلام)، والتي اختارتها -فيما بعد- جمعية كتاب الخيال العلمي الأمريكية كأفضل عمل قصير.
أثناء الحرب العالمية الثانية، لبى (أسيموف) نداء الواجب، وعمل –كمدني- ببحرية (فيلادلفيا) لمدة ثلاث سنوات (من 1942م: إلى 1945م)، وحتى تلك الفترة، لم يبتعد خلالها كثيرًا عن الأجواء الأدبية.
مخطئ من يظن أن المصادفات الفانتازية لا تحدث أحيانًا، حتى لأهل الخيال العلمي، وإلا فما هي احتمالات اجتماع ثلاثة أيقونات خالدة في أدب الخيال العلمي، شاء القدر أن يخدما بنفس المكان والزمان، مسرح هذه المصادفة هو بحرية فلاديلفيا، أما الفرسان الثلاثة فهم الكيميائي المدني (إيزاك أسيموف).. الضابط البحري (روبرت هينلاين).. الملازم احتياط (سبراج دي كامب).
عقب انتهاء الحرب، حصل (أسيموف) على الدكتوراة في العلوم الحيوية عام 1948م، والتحق بهيئة تدريس كلية الطب- جامعة (بوسطن)، واستمر تسعة أعوام على هذا الحال قبل أن يقف في مفترق طرق بين التدريس والأدب،  فانتصر حبه للخيال العلمي وتقاعد في عام 1958م، أما عندما كان يناله الحنين إلى معامل الكيمياء، يخرج هذه الطاقة في كتابة الدراسات العلمية، والحق أن رصيده منها بلغ حدًا مهولًا، كما سار على نهج سلفه (ويلز) في الاقتناع بأنه "لا مستقبليات بدون إدراك جيد للماضي"، فأضاف التاريخ إلى حقيبة اهتماماته، وله عدة كتب في هذا الصدد، في الواقع، حاولت حصر المجالات التي كتب فيها (أسيموف)، فلاقيت معاناة شديدة، لأنه تميز بكم شديد من التنوع  اقترب من 515 كتاب ومئات المقالات، ما بين الكيمياء، العلوم عمومًا، التاريخ، النقد الأدبي، وحتى الأدب الساخر. 
أما عن المحطات الأدبية الأبرز، فبدأت بنشر مجموعته القصصية "أنا روبوت" عام 1950م، التي استوحى العلماء منها قوانين الآليين الثلاثة، ثم ألحقها بأولى ثلاثية (المؤسسة) التي نال عنها جائزة (هوجو) للخيال العلمي، بينما صنفها البعض كأفضل سلسلة في تاريخ الخيال العلمي على الإطلاق، وبسببها تعرض لضغط المعجبين –على مدار ثلاثين عامًا- كي يضيف أجزاء أخرى، حتى اقتنع أخيرًا عام 1982م ونشر عمله المعروف (حافة المؤسسة)، ليتبعها بالمزيد لاحقًا.
ولفرط التأثير الواسع لسلسلة (المؤسسة)، اعترف الاقتصادي الحاصل على نوبل (بول كروجمان)، أنها ألهمته كثيرًا، حيث تتحدث عن باحث يصل إلى طريقة للتنبؤ بالمستقبل، تقوم على التحليل النفسي والاجتماعي والسياسي لسلوك الجماعات والدول، فيتوقع بواسطتها انهيار إمبراطورية المجرة، وكل ما يستطع فعله، هو استخدام نفس العلم في محاولة تقليل فترة الاضمحلال إلى ألف سنة فقط، بدلًا من 3 آلاف.
على صعيد الحالة الاجتماعية، انفصل (أسيموف) عن زوجته الأولى عام 1970م، حتى أسعده الحظ بأن التقى (جانيت أوبال جيبسون)، التي كانت وجه فأل أشرق على حياته، فتزوجا عام 1973م، وهى من أكمل معه مشوار حياته حتى أنها تصدرت لمهمة إتمام الفصل الأخير من (أى روبوت) بعد وفاته.
سبب الرحيل؛ عملية نقل دم تمت عام 1983م، وكان الدم حاملًا لفيروس الايدز اللعين، لاحظوا أننا نتحدث عن عصر مبكر لم يعرف فحوصات الدم بالصورة الموجودة حاليًا.
 ظل (أسيموف) يماطل في مقاومة الفيروس الشرس لمدة تسعة أعوام كاملة، ليذكرنا بمقولته المتسامحة:
-"الحياة محببة والموت هادئ ولكن المشكلة هي الانتقال".
تم الانتقال في عام 1992م، ليغمض (أسيموف) عينيه إلى الأبد، أي أننا كنا بصدد 72 عامًا من الصعب إحصاء تأثيرهن، هل نتحدث مثلًا عن أعماله الغزيرة التي انتقلت إلى الشاشة مثل (أنا روبوت) و(رجل المائتي عامًا) وغيرها.
أم نشير إلى أن هناك حفرة على المريخ تحمل اسمه، أو إلى المجلة التي تحمل نفس الاسم على الأرض، منذ عام 1977م، واستمرت كمنصة مرموقة إلى الآن، علاوة على سيرة ذاتية حملت عنوان (كانت حياة طيبة).


أصيب بشلل في طفولته، غير أنه تجاوز المحنة بإرادته الصلبة، نفس الإرادة انعكست في الكتابة، مما جعل زميله (ايزاك أسيموف) يشيد به دائمًا، وكي لا نظن أنه محض مجاملة بين زملاء، شبه أحد النقاد ضمير "الأنا" عند (أسيموف) بأعلى ناطحة سحاب "أمباير ستيت"، لذلك يجب أن تتعامل مع كلامه بجدية، عندما نجده يصف (كلارك) بأنه أعظم كاتب خيال علمي في الكون.
اشترك كلارك مع (أسيموف) -أيضًا- في أن كلاهما قادم من عالم العلم والمختبرات، بالإضافة إلى أن بداية شغف الاثنين بالخيال العلمي بدأت منذ الطفولة، عن طريق مجلات الخيال العلمي الرخيصة، أي بإمكاننا القول أن؛ هذه الدوريات التي تباع بسنتات، ويصنفها النقاد على أنها أدب أدنى يهدف للتشويق والإثارة، هي صاحبة الفضل في منحنا أفضل كاتبين في حقبة الأدب الجاد.
في الوثائق الشخصية لكلارك، ينسبوا تاريخ ميلاده إلى 16 ديسمبر 1917م، أما بلد المنشأ فهي بلدة ساحلية بمقاطعة (سومرست) الإنجليزية.
ظهرت ميول الأدب العلمي باكرًا لدى الصبي، الأدب من خلال مشاركاته النشطة في مجلة المدرسة، والعلم، من خلال غوايته في تأمل النجوم، وانضمامه فيما بعد لجمعية الكواكب البريطانية.
في سن الرابعة عشر، توفي الأب، مما أطاح بطموح الصبي في الالتحاق بالجامعة، واضطر للعمل محاسبًا بلندن، وبالتوازي مع ذلك، استمرت ميوله الفلكية حتى صار رئيسًا للجمعية الكواكب في نهاية الأربعينات، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية بما جرته من ويلات على المملكة المتحدة، فخدم كملازم رادار تابع لسلاح الجو الملكي، وهي الوظيفة التي أتمت له توفير مدخرات طيبة، أعانته على تحقيق حلمه المؤجل، ودخول الجامعة عقب الحرب، بعد أن اختار لنفسه قسم الرياضيات والعلوم، بكلية (كينجز كوليدج)، بلغ ذروة إنجازاته في المجال، بورقة علمية كتبها في زمن سابق، عن حلم الأقمار الصناعية، ومساراتها المثلى على ارتفاع قدرها بـ 36000 كم، علاوة على القفزة التي يمكن أن تحدثها في مجال الاتصالات والأرصاد، لذلك، اعترافًا بالجميل، يطلق عليها حتى الآن (مدارات كلارك).
كتب (كلارك) عشرات المؤلفات عن الفضاء، وإن لم تنصب اهتماماته نحو الأعلى فقط، بل أغرم بالغطس أيضًا، فأسس مركزًا خاصًا لتعليمه بـ (سيرلانكا)، وكما تخلد اسمه في الفضاء، حصل على  نفس التميز مع الأعماق كذلك، فينسب إليه مع زميله (مايك ويسلون) اكتشاف معبد غارق ينتمي هناك، وللحق، كل شيء في (سيرلانكا) جذب (كلارك) للاستقرار هناك منذ عام 1966م، إلا أنه لم ينس بلده الأم، وقرر القيام بدور في تشجيع الخياليين الجدد، فتبرع بمنحة عام 1987م لإطلاق جائزة سنوية تحمل اسمه إلى الآن، بتحكيم من جمعية الخيال العلمي البريطانية.
أشهر أعماله قاطبة هو "أوديسا الفضاء:2001م"، وله حكاية غريبة، تثبت أن "الفكرة" قد تغدو أكبر من القالب الأدبي الذي قد يصبها به المؤلف، فيعود الأصل إلى قصة قصيرة كتبها (كلارك) تحت عنوان (الحارس)، ثم حولها إلى سيناريو فيلم بالتعاون مع المخرج المتألق (ستانلي كوبريك)، ليصنفه البعض ضمن أفضل الأفلام في تاريخ السينما، فهل اكتفت الفكرة، وكفت عن تأريق (كلارك) إلى هذا الحد؟ كلا.. أجبرته على تحويل السيناريو إلى رواية من عدة أجزاء، حازت نجاحًا كاسحًا هي الأخرى، وصارت أحد أهم أحجار الزاوية في بناء كلاسيكيات الخيال العلمي.
ومن الأعمال الأخرى التي اتسمت بذات الصفة، (موعد مع راما)، وهي رواية تتماس مع (أوديسا 2001) في تناولها لأجسام فضائية غريبة تنتمي لحضارات أخرى، حصد عنها (كلارك) جائزتي (هوجو) و(السديم) الرفيعتين، ثم عاد ونالهما معًا مرة أخرى عن رواية (ينابيع الجنة)، وتتحدث عن مصعد فضائي يتم ربطه بقمر صناعي، هكذا تنتفي حاجة الأرضيين إلى استخدام صواريخ، لأن الانتقال إلى الأعلى يصير مباشرًا.
عام 1988م، حصل (كلارك) على زيارة من رفيق لدود قديم.. مرض (شلل الأطفال) الذي ظن أنهما افترقا منذ عقود، فاضطر الكاتب الكبير إلى التقيد بمقعد متحرك، داخل ما يمكن أن نسميه  "الكهف الإلكتروني"، فلم يستطع العودة لبريطانيا حتى عند علمه بحصوله على لقب "فارس"، وبديلًا عن نيل التكريم –كما تقتضي العادة- من صاحبة الجلالة شخصيًا، قلده إياه سفير المملكة المتحدة بـ "سيرلانكا".
في المقابل، على النقيض من جسده، ظل عقله محلقًا حتى آخر أيام حياته، فاكتشفنا -جميعًا- تواصله خلالها مع الكاتب (فريدريك بول) في الطرف الآخر من العالم، واشتراكهما معًا في تأليف (النظرية الأخيرة)، تلك الرواية لم يمهله القدر (كلارك) حتى يرى خروجها إلى النور، وتوفي في 19 مارس 2008م.


من الأسبق بين مؤلفي الخيال العلمي في الكتابة عن رجل خفي.
كلا، ليس هربرت ويلز.. إنه (بيج ميشيل).
ماذا عن السفر عبر الزمن؟؟!
أيضًا ميشيل.
الانتقال الآنى؟!
خمن ذلك، هو كذلك ميشيل.
هذا الرجل ارتاد أغلب الثيمات قبل الأغلبية، لكن عند صياغة تاريخ الخيال العلمي، أتعجب من أنه يصير اسمًا شبه منسي تقريبًا.
عندما نرتب قائمة لأفضل عشرين كاتب خيال علمي من الناحية الفنية، ربما لا يأتي (بيج ميشيل) منهم، لكن بما أننا نتحدث هنا عن الاستبصار بالدرجة الأولى، فلا ريب أن مكانه محجوز في صدارتهم.
ولد (ميشيل) في مدينة (مين) الأمريكية، وعاش في كنف جديه لأمه، ثم عاش فترة من التنقل مع والديه، أولها عام 1863 م، إلى منزل على مشارف نهر (تار) بـ(نورث كارولينا)، تلك هي الفترة التي بدأ فيها مراسلة صحيفة (The Bath Times)، فذاق ميتشل أول فرحة برؤية اسمه في مطبوعة ورقية، وهو لم يزل دون الخامسة عشرة من عمره.
بعدها بثلاثة أعوام، حدث الانتقال الثاني مع العائلة إلى نيويورك، نقطة التحول الفارقة أن السكن الجديد على رأس الجادة الخامسة، بالقرب مباشرة من مكتبة نيويورك العامة، فتفتحت عينا المراهق ميتشل على عالم لا حدود لروعته، قبل أن تحل مصيبة بإحدى هاتين العينين، ونقصد المعنى الحرفي للكلمة.
هناك جمرة طارت من مدخنة القطار، لتصيب عين الطالب العشريني بجامعة (بودوين)، أسرعوا به إلى المستشفى، لكن بعد فوات الأوان، وانطفأت إلى الأبد.
حادث قاصم بأي مقياس، إلا أن ميتشل قرر التعامل مع أوجاعه بالطريقة التي يعرفها، بأن يترجمها في شكل قصة، فخرجت إلى العالم درته Tachypomp.
وهكذا تجاوز الأمر، ليبدأ رحلة صعوده في بلاط صاحبة الجلالة، تحديدًا جريدة (الشمس) اليومية بنيويورك، وتدرج في سلمها حتى وصل إلى منصب رئيس التحرير عام 1897م.
كتب ميشيل عشرات القصص التي كرست ريادته، بالإضافة لحيازته باعًا واسعًا في عالم الماورائيات، وتعقبه للعديد من قضاياها عبر صفحات جريدته.
كاتب الرعب الشهير (لافكرافت)، قال ذات مرة، ما معناه:
- أتوقع بعد وفاتي أن يمحى ذكرى من الوجود، لأن أغلب ما كتبته متفرق بين عشرات الصحف والمجلات.
من حسن حظ (لافكرافت) أن أحد تلامذته أنشأ دار نشر، خصيصًا لجمع تلك الأعمال المبعثرة، في المقابل، عاني (ميشيل) من نفس الأزمة، وتأخر حصوله على منقذ مماثل حتى عام 1973م (أي بعد وفاته بـ46 عامًا)، عندما انتشلت (سام موسكوفيتش) اسمه من تحت الركام، وقامت بجهود مضنية لجمع تراث الكاتب المجتهد، ثم أصدرتها مرفقة بمقدمة طويلة عن سيرته الذاتية.
كما قلنا آنفًا، كتب ميتشل عن (السفر عبر الزمن) قبل ويلز، عبر قصة (الساعة التي ذهبت إلى الوراء)، تدور المسألة حول ابني العم الذين عادا إلى الوراء اثنين إلى الوراء ثلاثة قرون، وقاما بدور حاسم خلال الحرب الثمانين عامًا آنذاك.
أما عام 1874، فكتب عن الترحال بسرعة لا نهائية، أسرع حتى من الضوء (Tachypomp)، وذلك قبل إعلان أينشتاين لنسبيته بنحو ربع قرن.
بعدها بثلاثة أعوام، حكى عن القدرات فوق ذهنية: من تحريك وتخاطر عن بعد في (الرجل بلا الجسم)، و(Old Squids and Little Speller)، ثم طور موضوعاته إلى حكاية كمبيوتر تم زراعته في رأس إنسان، وهو فكرة قصة (نقل عقولهم)، وفي العام 1879م، أكمل الطيران بخياله في المسار، إلى عالم الكمبيوترات الفائقة والآليين الشبيهين في (أقوى رجل في العالم)، وفي نفس العام، غادر (ميشيل) عالم الخيال العلمي الصعب (الخاص بالفيزياء والأحياء، إلخ)، وزحزح اهتماته لتشمل الخيال العلمي الاجتماعي، ففي "ابنة السيناتور " يقفز إلى عام 1937م، ويتصور قصة حب بطلتها ابنة عضو في مجلس الشيوخ، وفي الخلفية يصف صراعًا طويلًا بين الولايات المتحدة والصين، بالإضافة لرؤى من نوعية؛ الزواج بين الأعراق، ظفر المرأة الأمريكية بحق التصويت، وكلها تطلعات تقدمية جدًًًا بالنسبة لزمنه.
على الناحية الأخرى، لم ينس أن يضع لمساته المعتادة من الخيال العلمي الصعب، كاستناجه المبكر لوجود مخترعات مستقبلية مثل: التدفئة الكهربائية، والأغذية المركزة، والأهم، حديثه عن قدرة العلم على تجميد البشر في سبات صناعي، قبل إعادة إحيائهم في وقت لاحق.
تقاعد (ميشيل) عام 1926م شاعرًا أنه دنو النهاية إذن، وبالفعل أصيب بنزيف فى المخ، ذاك المخ الذهبي الذي لطالما ضخ رؤى ونبوءات، توفى النبيل إدوارد (بيج ميشيل) ودفن في بلده الحبيب (جلين ريدج).
-
لتحميل كتاب (نبوءات الخيال العلمي) كاملًا.. من (هنا). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"