الجمعة، 24 فبراير 2017

من كتاب (نبوءات الخيال العلمي)| الذهاب بعيدًا


البداية:

مع نص مصري يضرب بجذوره إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، نقرأ فيه عن رحلات خيالية إلى كواكب أخرى، لا ننسى -كذلك- النقوش العجيبة على جدران معبد (أبيدوس)، لشدة شبهها بوسائل تنقل معاصرة (غواصة، دبابة، طائرة، إلخ).



أتعامل بحذر مع هذه النصوص، لأنها -في الأغلب- كانت بمثابة قناعات دينية بالنسبة لهم، وهناك فرق بين ما المعتقد الديني، وبين النصوص التي صاغها البشر بغرض الحكي الأدبي، فلو فتحنا الباب أمام هذا الخلط، سنجد كاتب هندي يعتبر حادثة (الإسراء والمعراج) مثلا نوع الخيال العلمي الخاص بالانتقال الآني، في قد ننظر نحن إلى عقيدته البوذية على أنها نوع من الفانتازيا.
لذلك أفضل ترك جميع العقائد في حالها، والاكتفاء بما تم كتابته بنية الأدب مع سبق الإصرار والترصد. بناء على هذا المعيار، نضطر للانتظار حتى مجيء القرن الثاني الميلادي، لنلتقي بشخص يعتبره الكثيرون صاحب أول رواية خيال علمي في التاريخ.
- لوقيانوس (أو لوسيان) السوري، وهو –كما يشير لقبه-  ينتمي لجذور سورية، إلا أنه عبر إلى الجانب الآخر من الشاطئ، وعمل بأوربا خطيبًا وشاعرًا متجولًا، ثم أضاف إلى سجله المهني؛ إنجاز أول إرهاصة  يمكن أن نعتبرها -تجاوزًا- قصة ( خيال علمي)، مع أن عنوانها يوحي بالعكس.. (قصة حقيقية)، هذا هو الاسم الذي اختاره (لوقيانوس).. وتحدث فيها عن رحلة إلى القمر، واستعار حرب كونية هناك بين ملكيّ القمر والشمس.
بعدها انتظر درب الخيال العلمي كثيرًا حتى القرن السابع عشر، عندها ظهر من يكمل الطريق في الذهاب بعيدًا، إنه الفلكي الألماني (يوهانز كبلر)، الذي صاغ  روايته الرائدة (سومونيوم) أو (الحلم) باللاتينية، التزم فيها (كبلر) بالذهاب إلى ذات هدف الخياليين جميعًا.. القمر، لا زلنا في القرن الـ 17، وإن ننتقل إلى الجزيرة البريطانية هذه المرة، هنا نجد (فرانسيس جودوين) منكب على كتابة روايته «الرجل الذي في القمر» عام 1638م، كما لا يمكننا تخطي مجهودات الفرنسي (سيرانو ديبرجراك) في قصتيّ؛ (التاريخ الفكاهي لدول وإمبراطوريات القمر)، و(التاريخ الفكاهي لدول وإمبراطوريات الشمس)، وقدم عبرهما رحلات خيالية إلى بعض الدول، ثم تمرد على التقيد بحدود الكرة الأرضية، فوسع رقعة زياراته لتشمل القمر والشمس ذاتهما. المدهش أنه تطرق خلال سرده لأفكار حول انعدام الجاذبية في الفضاء، الصواريخ متعددة المراحل، وحتى القفز بالمظلات، مما جعل معاصرو (ديبرجرالك) يعتبرونها محض فانتازيا طفولية، في حين يصفها أحد النقاد بأنها "أول استكشاف خيالي مزود بجمع البيانات وتجريبها".
فيما بعد، يبدو أن مؤلفي القرن الثامن عشر ملوا التحليق إلى الأعلى، لذا فكروا في وجهة مختلفة؛ الغوص إلى أسفل.
التقط الخيط انجليزي يدعى (روبرت بالتوك)، ليحيك منه شخصية (بيتر ويلكنز)، ومغامرات مع كائنات طائرة تسكن الكهوف السفلية، ثم انتحت القصة محنى رومانسي تمامًا، عندما تعلق (بيتر) بإحدى إناثهم، وانتهت القصة بزواجه وإنجابه منها.
نستمر في القرن الـ18، ولا نزال مع الغوص في باطن الأرض، فالنرويجى (نيل كليم) سَطَرَ رائعته (رحلة إلى ما تحت الأرض) ، وحكى عن معركة مع مخلوقاته التي تجمع بين القسوة والجمال، هذا العمل حقق نجاحًا وتألقًا وقتها، ويكفى القول أنه ترجم إلى 13 لغة.
التمس العذر لو أن أغلب الأسماء السابقة غير معروف للجميع، لذلك سأنتهز الفرصة للانتقال إلى علامات أكثر ألفة، ما رأيك في (إدجار آلان بو) مثلًا؟
نحن نتحدث -الآن- عن أحد الآباء الشرعيين لفن القصة القصيرة، وكذلك أدب الرعب،  وأيضًا – صدق أو لا تصدق- من رواد الخيال العلمي. فمن أعماله المتميزة؛ قصة عن رجال ينجحون في عبور الأطلسي بواسطة منطاد، قد يبدو ذلك تراجعًا مخيبًا للآمال، فبعد الاعتياد على الذهاب إلى القمر، يصير المحيط الأطلسي هو الغاية والغاية هذه المرة!
نشرت القصة عام 1844م، بينما أول منطاد عبر الأطلسي –في الحقيقة- فعلها عام 1978م، هذا يعطيكم فكرة حول؛ كم كان (بو) سابقًا لعصره وقتها، لدرجة أننا سنلمس امتداد تأثيره حتى على الجيل الشهير اللاحق، فنزعم أن أبسط مثال؛ (جول فيرن) في رواية (خمسة أسابيع في منطاد).
يضيف متخصصون آخرون ضمن سلة  (آلان بو) في الخيال العلمي؛ بعض تأملاته الشعرية المدرجة ضمن كتاب (يوريكا).
ننتقل الآن إلى القرن التاسع عشر، هنا تنتهي الإرهاصات، ويبدأ الميلاد الحقيقي.
الآن.. الثورة الصناعية في أوجها، والتفكير العلمي بدأ يتخذ طريقه إلى العقل الأوربي، فشعر الأدباء –في المقابل- بالتحدي، وقرروا الانطلاق قي سباق مع العلم، وللحق، فقد فاز الأدباء بهذا السباق وقتها.
كلمة السر في ذاك الزمن، اسمان:
الفرنسي (جول فيرن)- (1828  -   1905م).
والانجليزي (هربرت جورج ويلز)- (  1866 – 1946م).
هذان هما الوالدان الشرعيان للخيال العلمي، وإن يضيفوا لهما أحيانًا مثل (هوجو جرنسباك).
نعود بالحديث إلى السباق الذي انفرد به الاثنان، أما ويلز فقد أبدع من ناحيته رواية (أول رجال على سطح القمر).
استشرف خلالها ويلز مستقبل ريادة الفضاء، هكذا حلم الأدباء،  وكان على العلماء أن يفكروا في تحقيقها، وطبعًا كان مسيرتهم بطيئة بالنسبة لجموح  الأدب.
فانتظر العالم حتى عام 1957م،  عندما وطأ نيل (أرمسترونج) بقدميه أرض القمر فعلًا.                  
وعندما يقارن الأكاديميين بين (ويلز) و(فيرن)، يرجحوا كفة الأول، باعتباره أعمق اهتمامًا بالأبعاد الفلسفية في أعماله، لكن أما وأننا هنا في فصل يتحدث عن (الذهاب بعيدًا)، فهذا يجعله ميدانًا لمغامرات (فيرن)، أكثر بكثير فلسفة (ويلز).
في العام 1954م –مثلًا- ألّف فيرن تحفته"عشرون ألف فرسخٍ تحت الماء"، وفيها تكلم عن الغواصة (نيوتيلوس) وقبطانها الغامض (نيمو).
سردت الرواية السمات الفريدة للغواصة، وذلك في زمن كانت فيه الغواصة فكرة بدائية، هنا نشير إلى ثمة خطأ شائع بأن جول فيرن هو أول من وصف الغواصة.
اسمحوا لي بالتصحيح، الغواصة كانت موجودة بصورة بدائية في عصر (فيرن)، كما أن هناك شخص سبقه في الحديث عنها بعقد ونيف، أي في تاريخ سابق عن فيرن، ذلك الشخص هو (تيوفيل جوتييه) عبر قصته المعنونة بـ (النجمان) عام 1848م.
إضافة (فيرن) العبقرية كان في تجاوزه حدود عصره بكثير، ووصفه لمركبة تحت مائية- ضخمة- معقدة التركيب، في وقت اقتصرت فيه الفكرة العامة عن الغواصة على أنها كرة مفرغة يتم إدلائها في الماء بحبل. على الناحية الأخرى، أنكر (ويلز) احتمالية وجود مستقبل لذلك الاختراع، وأكد إصراره على هذا التوقع في كتابه (التوقعات).
وهكذا خسر (ويلز).. وربح (فيرن).. في ذاك المضمار على الأقل.
توغل الفرنسي في دروب الخيال أكثر، وصدم الجميع بتفصيلته حول إمكانية وصول غواصته المتطورة إلى القطب الجنوبي، وهو ما حدث بالفعل عند اختراع الغواصة النووية عام 1958م، وكاعتراف بالجميل تم تسميتها بنفس الاسم.. (نيوتيلوس).
وهذا ما يقودنا إلى معضلتنا الأساسية: إلى مدى يلهم الخيال العلم، والعكس؟
يعد (فيرن) أحد أبرز من انتصروا كثيرًا كفة الخيال، بدليل مقارنة بسيطة بين غزو الفضاء 1969م، وبين بروايته (من الأرض إلى القمر) التي سبقت بنحو قرن كامل.
وضع (فيرن) الخطوط العريضة للرواية عام 1865م، وأسسها على فرضية؛ إمكانية السفر إلى الفضاء بواسطة طلقة مدفع، تسع داخلها عددًا من الركاب، في الرواية.. تم اختيار ولاية (فلوريدا) كمكان لبناء المدفع الضخم، وبعد مائة عام  بالتقريب، توجهت أبصار العالم إلى قاعدة (كيب تاون) بفلوريدا أيضًا، ليتابعوا انطلاق المركبة أبوللو 11 التي حملت ثلاثة رجال، وهو للمصادفة نفس عدد رجال الدانة أيضًا.
في الرواية أيضًا، سارت المركبة بسرعة 40 ألف كم/ س، ووصلت للقمر بعد أربعة أيام، وعند المقارنة بما وقع في الحقيقة،  بلغ معدل سرعة أبوللو حوالي 38 ألف كيلومتر، ووصلت للقمر أيضًا بعد أربعة أيام ونيف.
في الرواية؛ تناول أبطالها طعامًا في شكل حبوب وأقراص، أما رواد أبوللو فكان طعامهم عبارة عن كتل مضغوطة من اللحم والخضر.
كما تنبأ (فيرن) خلال الرواية بانعدام الجاذبية في الفضاء، وهذا وحده كافٍ لأن نرفع له القبعة.
=

لتحميل كتاب (نبوءات الخيال العلمي) كاملًا.. من (هنا). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"